تتفق التعريفات المتعدّدة للمسؤولية بأنَّها فطرة موجودة في أيّ شخص حيّ يمارس حياته. وقد عرّفها الإمام الشافعي بقوله: (تعني المسؤولية الاستعداد الفطري الذي جبل الله تعالى عليه الإنسان ليصلح للقيام برعاية من كلفه الله به من أمور تتعلق بدينه ودنياه فإن وفّي ما عليه من الرعاية حصل له الثواب وإن كان غير ذلك حصل له العقاب). ويقول الحارثي: (إنَّ أيَّ إنسان مكلّف يعتبر مسؤولاً عمَّا كلف به، فجميع أعمال الفرد وقواه وقدراته ومواهبه وأعماله وأفكاره ومدى ما يحدث من تأثير في الآخرين كل أولئك كان عنه مسؤولاً).
فلا يعقل أن يوجد إنسان في هذا الكون دون مسؤولية إلاّ في حالات نادرة، يذكرها الفقهاء مثلاً؛ إذا سُلب من الإنسان عقله سقطت عنه المسؤولية، وكما تقول القاعدة: "إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب".
ومن هنا قرَّرت الشريعة الإسلامية مبدأ المسؤولية الشاملة في المجتمع الإسلامي، وحملت كلّ فرد فيه مجموعة من المسؤوليات التي تتفق وموقعه وقدراته، فعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت الرَّسول صلّى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته؛ الإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيّده ومسؤولٌ عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته)). [أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عمر].
"قرَّرت الشريعة الإسلامية مبدأ المسؤولية الشاملة في المجتمع الإسلامي، وحملت كلّ فرد فيه مجموعة من المسؤوليات التي تتفق وموقعه وقدراته"
فهذا الحديث الشريف أصلٌ في تحمّل المسؤولية التي سوف يحاسب عنها الإنسان يوم القيامة، لأنَّ عدم تحمّل المسؤولية أو اللامسؤولية تعدّ شكلاً من أشكال الخيانة، فالحاكم مثلاً هو صاحب الولاية العامَّة على شؤون الناس كافة، وهو المكلّف منهم بتطبيق شرع الله وتنفيذ أحكامه والالتزام بها، والحرص على تحقيق مصالحهم جميعاً بحفظ حقوقهم، وتأمين حاجاتهم، وغيرها من متطلبات المسؤولية، وهكذا كلّ من أوكلت له مسؤولية مهما كان حجمها أو صفتها هو راعٍ لها ولمتطلباتها.
{إنّي حفيظٌ عليم} .. هل تُطلب المسؤولية؟!
لقدر حذّر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من طلب الإمارة في أكثر من موضع وحادثة؛ مع الصحابي الجليل عبد الرحمن بن سمُرة رضي الله عنه في حديث أخرجه الإمامان البخاري ومسلم: ((يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعنت عليها)). ومع الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري بعدما سأله الإمارة فأجابه في حديث أخرجه مسلم في صحيحه: ((يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنَّها يوم القيامة خزيٌّ وندامة إلاَّ من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها)).
بينما نجد في القرآن الكريم نصاً على لسانه نبي الله يوسف يطلب الإمارة لكونه الحفيظ على هذه الأموال، العليم بطرائق استثمارها وتنميتها. قال الله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}. [يوسف:55]. فهل بين أحاديث النبيّ عليه الصلاة والسلام وبين هذا النص القرآني إشكال أو تعارض خصوصاً عند المتمسكين بنصّ الحديث المحذّر من طلب الرئاسة والقائلين بأنَّ الآية خاصّة بنبيّ الله يوسف عليه السلام فهو نبيٌّ مُرسل قد أُوتي الحكمة والعلم والأمانة والقدرة على استشراف مآلات هذه المسؤولية بنور الله ومعيته.
"الخواصّ الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات، وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا"
الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) يردّ بلغة وبيان وحجة بالغة قول الذين يرون تعارضاً أو تناقضاً بين النص القرآني والحديث النبوي، فيقول: "لعلَّ القليلَ البصيرةِ يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضًا وليس كذلك، بل الحق فيه أن الخواصّ الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات، وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا، وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا، ولا يستفزه الطمع، ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ وهم الذين سقط الخلقُ عن أعينهم، وزهدوا في الدنيا وتبرّموا بها وبمخالطة الخلق، وقهروا أنفسهم وملكوها، وقمعوا الشيطان فأيس منهم؛ فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق، ولا يسكنهم إلاّ الحق، ولو زهقت فيهم أرواحهم؛ فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة..".
ونجد أنَّ الإمام النووي في (شرح صحيح مسلم) يقف موقفاً وسطياً يجمع بين الرّأيين في حكمةٍ وبُعدِ نظر، فعند شرحه لحديث أبي ذر رضي الله عنه يقول: "هذا أصلٌ عظيم في اجتناب الولاية، لا سيّما لمن كان فيه ضعف وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل؛ فإنه يندم على ما فرَّط فيه، إذا جُوزي بالجزاء يوم القيامة، وأمَّا من كان أهلاً لها وعدل فيها، فأجره عظيم كما تضافرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم؛ ولذلك امتنع الأكابر منها فامتنع الشافعيُّ لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب، وامتنع منه أبو حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه، والذين امتنعوا من الأكابر جماعة كثيرون".