سبعة وستون عاماً تلك التي مرت على إنشاء ذلك الكيان المجرم على أرضنا، بعد أن تآمر العالم على شعبنا الفلسطيني الذي كان يعاني تحت الانتداب البريطاني آنذاك، والذي أثخن فيهم وحاربهم في كل شيء، مستغلاً حالة الفوضى التي كانت تسود المنطقة، وتنكب الأمة عن طريق عزتها ونصرها.
لم تكن دولة الاحتلال الصهيوني وقيامها على أرض فلسطين هي النكبة الوحيدة في تاريخنا المعاصر، بل كانت نكباتنا تتلوا ببعضها بعضاً. لكن بلا شك أن احتلال معظم فلسطين، وجلب شذاذ الآفاق ليحلوا محل أهلها المرابطين هي ذروة النكبات التي أحلت بأمتنا وما زالت مستمرة.
ولعل المطلع على الأوضاع السياسية آنذاك، يجد أن سبب حدوث النكبة لم يكن محصوراً ببريطانيا وحدها، وما قدمته وغيرها لليهود من تسهيلات لإقامة كيانهم. بل إن غياب الوعي العربي العام، وضعف روح الجهاد في الأمة، وعبثية التخطيط والرؤية، كانت أبرز العوامل التي ساعدت على حدوث ذلك.
لقد كان الكثير من أبناء الأمة الغيورين، يصيحون بأعلى صوتهم، يحذرون من مخطط تهويد فلسطين قبل حدوثه بسنوات، ومن لا يذكر الشيخ عز الدين القسام على سبيل المثال، وما كان يبثه في الأمة من وعي وسعي لحماية فلسطين مما يحاك ضدها، حتى نال الشهادة –رحمه الله-.
وفي الوقت نفسه، لم يكن الصوت الإسلامي بذلك المؤثر على القرار السياسي العربي، أو الإرادة الشعبية، باستثناء دعوة الإخوان المسلمين في مصر، والتي كانت تسعى على يد مرشدها الإمام حسن البنا –رحمه الله- لكشف المخطط الصهيوني والتحذير منه، ودون استجابة من قبل السلطات. حتى إذا فتح باب الجهاد ضربوا أروع الأمثلة في القتال ومقارعة العدو. إلا أن الخيانة السياسية انقلبت عليهم، وفتحت لهم أبواب السجون والمعتقلات، ليكافؤوا على جهادهم بالسجن والقتل والتعذيب.
"لم يكن يتصور أحد أن تهزم الجيوش العربية شر هزيمة في النكبة، بل لم يخطر ببال أحد أن ينتصر اليهود من الأساس!!"
وليس خافياً على أحد، أن التخطيط العسكري الشعبي لم يكن موجوداً، ولم يكن يتصور أحد أن تهزم الجيوش العربية شر هزيمة في النكبة، بل لم يخطر ببال أحد أن ينتصر اليهود من الأساس!!
ما الذي تغير؟؟
سؤال مهم يطرحه كل شخص يشعر بمرارة استمرار وجود الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية المباركة، وما يتبعه من تهويد للمقدسات، وقتل وتشريد وسجن للفلسطينيين، في ظل واقع عربي شديد التعقيد والتقلب، لدرجة أنه أصاب بعض المتابعين له بالإحباط واليأس من تحقيق التغيير.
أقول وإجابة على هذا السؤال، نعم هناك أشياء كثيرة قد تغيرت عما كانت عليه في وقت النكبة، وحري بكل شخص أن يتلمسها، كيف لا وهي تبث الأمل لدى كل مسلم يتمنى أن يشهد يوم تحرير فلسطين، وتطهيرها من أيدي اليهود.
ومن أبرز هذه الملامح، ما يأتي:
"المشهد الفلسطيني منذ بداية عام 2006، حتى وقتنا الحالي، قد شهد الكثير من التغيير المتسارع نحو مشهد التحرير، ودعم خيار مقاومة الاحتلال ومواجهته"
1- وضوح البرنامج الذي ينبغي التعامل مع الاحتلال الصهيوني من خلاله لدى كافة أطياف الشعب الفلسطيني، فبعد عقود من نكبة أوسلو والتي تعتبر انتكاسة في التاريخ الفلسطيني الحديث، من حيث الاعتراف بدولة الاحتلال، والتنكر لآلاف الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن هذا الوطن، ولحق اللاجئين بالعودة إلى أرضهم، إلا أن التفاف الشعب الفلسطيني حول خيار المقاومة وتمسكه بثوابت قضيته، كفيل بقلب الطاولة على المحتل ومن يسوّق لوجوده.
فالاصطفاف الشعبي حول خيار المقاومة، والالتفاف حول فصائلها، خصوصاً حركة حماس، في جميع الميادين في الجامعات والنقابات وغيرها، وفي الانتخابات البلدية والتشريعية، بل وقبل ذلك في انتفاضة الأقصى، كان كفيلاً بتغيير كثير من مفردات المشهد الفلسطيني. ويكفي أن نقول أن المشهد الفلسطيني منذ بداية عام 2006، حتى وقتنا الحالي، قد شهد الكثير من التغيير المتسارع نحو مشهد التحرير، ودعم خيار مقاومة الاحتلال ومواجهته.
2- اهتزاز صورة الكيان الصهيوني، وتطور العمل المقاوم. فخلال الأعوام السبعة الأخيرة، شهدت فلسطين، خصوصاً قطاع غزة، ثلاثة حروب عسكرية، أبدت فيها كتائب القسام وباقي الفصائل، تطوراً ملحوظاً، وصموداً أسطورياً. وكانت حرب العصف المأكول الأخيرة، قمة المفاجأة للعدو والصديق على حد سواء. من حيث القدرات العسكرية، والعمليات البطولية، من فوق الأرض وتحتها، أو من الجو والبحر، ناهيك عن جعل الكيان الصهيوني منطقة خاضعة لنيران وصواريخ المقاومة.
إن المقاومة الفلسطينية في الحرب الأخيرة، لم تقصر حربها على أراض عام 1967، كما يريدها من تتقاطع مصالحه مع الاحتلال، وإنما أعادت رسم خارطة فلسطين التي مر على تجاهلها سبعة وستون عاماً، حيث أعادت الأمل بالعودة إلى حيفا ويافا، والمجدل وبئر السبع، واللد والقدس وغيرها.
إن هذه المشاهد كانت كفيلة بإسقاط صورة الكيان الصهيوني وهيبته، والتي سعى لرسمها في أذهان الناس، بأنه لا يقهر، وأقوى من أن ننتصر عليه، وما سقط إلا بفضل الله، ثم بصمود أبطال فلسطين وأهلها.
3- نمو التيار الإسلامي وانتشاره داخل المجتمع العربي وتأثيره عليه. صحيح أنه يتعرض وبشكل مستمر لعمليات التضييق والمحاربة والاتهام بالتطرف والإرهاب، إلا أن هذه الأمور والمعيقات لا تؤثر إلا ظاهرياً فقط، أما من حيث الحقيقة، فهذه التيارات باتت أعتى وأقوى من أن يتم استئصالها، أو إضعاف دورها، فهي متجذرة بشكل أكبر من الحكومات نفسها. ولهذا رغم حدوث الكثير من التغييرات على العالم العربي، والبنية السياسية فيه، إلا أن الحركة الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، ما زالت باقية، تمارس دورها الإصلاحي والنهضوي، وتنال ثقة الناس، وإن كانت تختلف شعبيتها من دولة إلى أخرى.
وعطفاً على ما سبق، فإن الكثير من الناس يعلمون أن الحركة الإسلامية، باتت الأكثر أمانة على عموم قضايا الأمة، وخصوصاً القضية الفلسطينية، نظراً لما تسطره حركة حماس من ثبات في كل الميادين، ميادين الجهاد والسياسة وغيرها.
4- ازدياد الوعي العربي بالقضية الفلسطينية. صحيح أنه ما زال أقل من المأمول، لكنه خاضع لعوامل سياسية واجتماعية واقتصادية كثيرة. ومع ذلك، ومع وجود المحاولات الكثيرة التي يقوم بها القادة السياسيون وغيرهم لحرف الجماهير عن قضيتها المركزية، إلا أن الجماهير ما زالت تنتفض على كل هذه المحاولات عند أول امتحان حقيقي. فتخرج المسيرات والمظاهرات ويقدم الدعم للقضية بشتى صوره –وإن كان يختلف باختلاف أحوال الدول والشعوب-، وبلا شك أن وقوف الشعوب العربية والمسلمة مع هذه القضية تؤثر وبشكل لا ينكره أحد على القرار والتوجه السياسي العام، ناهيك عن رفع معنويات المرابطين في الميدان، خصوصاً في الصف الأول من خطوط التماس مع العدو.
5- اهتزاز صورة دولة الاحتلال عالمياً. صحيح أن هناك تعاطفاً رسمياً ودولياً مع الكيان الصهيوني، نتيجة لتقاطع المصالح معه، وضغط منظمات اللوبي الصهيوني، إلا أن المنظمات الحقوقية، ما زالت تقض مضاجعهم، ناهيك عن وجود تيار شعبي لا يستهان به، يقف مع الفلسطينيين ويحارب الصهيونية وما تمارسه من فظائع بحق شعبنا. وهذا عائد لجرائم الاحتلال التي باتت لا تخفى على أحد، ونتيجة لجهود أبناء شعبنا الفلسطيني وغيرهم من العرب والمسلمين، والتي تقوم على فضح ممارسات الاحتلال، وبيان طبيعة القضية وأحداثها، خصوصاً في دول أوروبا وأمريكا.
"صحيح أن فلسطين باتت أقرب إلى الحرية، لكنها تحتاج إلى التخطيط الناجح، والإيمان العميق، والعمل الدؤوب المتواصل"
ختاماً.. لا أقول أن فلسطين ستحرر غداً أو بعده، ولا يعني أن الواقع الحالي هو وضع مثالي يجعل فلسطين على أبواب الحرية والعودة إلى حضنها العربي والإسلامي، إلا أن مظاهر التغيير هذه تفرض علينا أن نستمر في الحفاظ عليها، وتنميتها والرقي بها.
صحيح أن فلسطين باتت أقرب إلى الحرية، لكنها تحتاج إلى التخطيط الناجح، والإيمان العميق، والعمل الدؤوب المتواصل. أما المعيقات التي تحول دون ذلك، فإنها لا شك زائلة، لكنها تحتاج إلى الصبر والتوكل على الله وحده.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد:7] وقال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله قوي عزيز} [الحج:40]
وأختم كلامي ببعض أبيات الشعر للشهيد عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله:
يا شعبي المغوار دع عنك الكرى ... بزغ النهار فهل تعود القهقرى؟؟
إن الشعوب إذا تراها استيقظت ... رغمت أنوف الظالمين إلى الثرى
فالشعب طوفان يدك عروشهم ... والشعب زلزال إذا يوما حرى
والشعب بالإيمان طود شامخ ... والشعب بالقرآن يقتحم الذرى