العناية بالنفس وضرورة محاسبتها من ألزم الواجبات

الرئيسية » بصائر تربوية » العناية بالنفس وضرورة محاسبتها من ألزم الواجبات
b-1-19

إن من ألزم الواجبات على المصلح أن يديم محاسبة نفسه؛ فينظر في كل صفحة من صفحات عمره مضت: ماذا أود فيها؟ ويعزم على استدراك ما فات، ويأطر نفسه على الحق أطراً؛ وذاك أن النفس بطبيعتها كثيرة التقلب والتلون، تؤثّر فيها المؤثرات، وتعصف بها الأهواء، فتجنح لها وتنقاد إليها، وهي في الأصل الغالب تسير بالعبد إلى الشر مصداقاً لقول الله تعالى: ((إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي)) يوسف 53.

ومن أدل ما يؤكد منزلة المحاسبة في فعل العبد، أن الله تعالى أقسم بالنفس اللوامة؛ فقال عزّ وجلّ: ((ولا أقسم بالنفس اللوامة)) القيامة 2.

وصحّ عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر)). وللإمام الحسن البصري رحمه الله حكمة فريدة يقول فيها: ((المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة)).

ومن بليغ ما ورد في أهمية محاسبة النفس ما أورده سيد قطب رحمه الله في الظلال؛ إذ يقول: ((مجرّد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمدّ ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة. وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً ورصيده من البر ضئيلاً؟! إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكفّ عن النظر والتقليب)).

وجميل ما وعظه لقمان لابنه؛ فقال: ((يا بنيّ: إن الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حرون؛ فإن فتر سائقها ضلّت عن الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت. إن النفس إذا أُطعمت طمعت، وإذا فوّضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت؛ فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بدّ له منها. وإنّ الحكيم يذلّ نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإنّ الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق: فما أحبت منها أحب، وما كرهت منها كره)).

وإنّ سلفنا الصالح قد خلّف لنا إرثاً عظيماً في سيرته الكريمة، فلقد امتلأت الصفحات بذكر مواقفهم مع ذواتهم ومحاسبتهم لأنفسهم، وكان إمامهم رسولنا عليه السلام، وسأكتفي بحادثة واحدة من سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إذ جاء رجل يشكو إليه وهو مشغول، فقال له: أتتركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شغل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدّرة، وقال له: ((اضربني كما ضربتك))، فأبى الرجل وقال: ((تركت حقي لله ولك)). فقال عمر: ((إمّا أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقك))، فقال الرجل: ((تركته لله)). فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين ثمّ جلس يقول لنفسه: ((يا ابن الخطاب: كنت وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفة فأتى رجل يستعين بك على دفع الظلم؛ فظلمته؟!! ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ وظلّ يحاسب نفسه حتى أشفق عليه الناس)).

"الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حرون؛ فإن فتر سائقها ضلّت عن الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت"

والمحاسبة: أن يميّز الإنسان بين ما له وما عليه، بغية استصحاب ما له وتأدية ما عليه. وفي محاسبة النفس ومراجعتها فوائد متعددة من أهمها:

  1. الاطلاع على نقائص النفس وإلزامها مكانتها الحقيقية إن زلت.
  2. التعرف على حق الله تعالى وعظيم فضله ورحمته؛ وذلك عند مقارنة فضل الله بالتفريط في جنبه تعالى.
  3. تزكية النفس وإصلاحها. قال الله تعالى: ((قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها)) الشمس 9-10.
  4. التربية على صحوة الضمير والوجدان والشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرفات.

والمحاسبة تكون على نوعين:

النوع الأول: محاسبة قبل العمل، وهي: أن يقف الإنسان مع العمل عند أول إرادته، ولا يقوم بالعمل حتى يتأكّد له رجحانه على تركه.

النوع الثاني: المحاسبة بعد العمل وهي على ثلاثة أقسام:

أ‌- محاسبتها على التقصير في الطاعات، وذلك بدوام مراجعة النفس هل أدت ما طلب الله منها، وإن قصرت فما دواعي التقصير؟ وما السبيل لاستدراكه؟

ب‌- محاسبتها على معصية ارتكبتها، وذلك باستغفار الله تعالى، والتوبة النصوح من الذنب، وتذكر فضل الله، والخجل من التقصير في جنبه.

ج- محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله. وهذا في المباحات أو في تقدير التصرف الأليق في العادات والمناسبات.

وبالجملة، فلا بدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس، ومعاتبتها وتذكيرها كلما وقعت منها زلة، أو جنحت إلى القصور والخطيئة، وإن مما يعين على المحاسبة: أولاً العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل، وكلما كان حظّه منه أقوى كان نصيبه من المحاسبة أكمل وأتم، وثانياً: سوء الظن بالنفس.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
يعمل في مجال الاستشارات الإداريّة، وحاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية ودبلوم عالي في MIS، وشهادتي ماجستير في MIS والعلوم السياسية ودكتوراه إدارة الأعمال. لديه العديد من المؤلفات من أهمها: نحو فهم لظاهرة التعلق بين المربي والمتربي، رسالة في الطريق إلى دعوتنا، الموجز الميسر في ثقافة دعاة العصر، مصادر القوة والتميّز عند الداعية، الابتسامة وأثرها في عمل الداعية. له الكثير من الأبحاث والمقالات السياسية والفكرية والتربوية والدعوية.

شاهد أيضاً

صنم الذات: كيف يهدم الرياء ما تبنيه يدك؟

من بين أكثر أمراض القلوب خفاءً وتأثيرًا، يبرز داء حب الظهور، ذاك الذي يجعل من …