غابت مفاهيم وأمور عدة مهمة، عن الكثير من شباب الجيل الحالي من أبناء الأمة المسلمة؛ فطغت الكثير من الظواهر السلبية على سلوكياته، في الكثير من المجالات، والتي من بينها قضية القراءة والاطلاع، وكيفية التحصيل المعرفي والفكري.
وهذه القضية ليست من نافلة القول؛ فإنه من بين أهم أركان عملية بناء الفرد المسلم الصحيح؛ البناء الفكري والتأسيس المفاهيمي، ولعل أكبر وجه للأهمية في هذا الأمر؛ هو أن هذا البناء، وعملية التأسيس تلك؛ هي التي تكون مسؤولة عن توجيه وتحديد بوصلة الإنسان في حياته، وتوجيهه بالشكل السليم.
ومن ثَمَّ؛ فإن أية أخطاء تقع خلال عملية التأهيل المعرفي؛ سوف تنعكس سلبًا على حركة المسلم في حياته العامة والخاصة، وستؤثر على مدى فاعلية دوره، والقيام بما هو مطلوب منه، كما حددته سنن الله عز وجل وقوانينه.
ومع التراكم في هذه الحالة، سواء على مستوى حياة الفرد، أو الجماعة، وعبر الزمن؛ فإن مشكلة التحصيل المعرفي، والأخطاء التي يقع فيها الكثيرون في عملية القراءة والاطلاع؛ تطبع بأثرها على مجتمعات بأكملها.
وارتباط الثقافة بالحضارة أمر معروف، وكلاهما يشترك مع الآخر في الكثير من الأركان، فكلاهما، فعل تراكمي، ويرتبط في تكوينه بمدىً زمني طويل، وكلاهما بحاجة إلى تأسيس قوي وسليم، من أجل أن ينهض البناء ويرسخ، ولا ينقضَّ بسهولة ويسر.
بل إن البعض يعرف الحضارة على أنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه وتحصيله الثقافي، وأن الحضارة تتكون من أربعة عناصر أساسية، وهي الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد والقيم، والعلوم والفنون والآداب.
كما يعرِّف البعض الآخر الحضارة، على أنها الفنون والتقاليد والميراث الثقافي والتاريخي، ومقدار التقدم العلمي والتقني الذي يتمتع به شعب معين في حقبة ما من التاريخ.
ومن ثَمَّ؛ فإن الحضارة تعني الثقافة والتحصيل المعرفي، أو على الأقل؛ فإن الثقافة بما تتضمنه من علوم وفنون، هي جزء أساسي من مفهوم الحضارة، ومرتكزه الرئيسي، وكثيرًا ما يتم استعمال مصطلح "الثقافة"، للإشارة إلى الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات البشرية المختلفة.
"القراءة هي الأداة الأهم لتحصيل المعرفة، وهي الوسيلة الرئيسة لارتقاء سلم المعرفة"
والقراءة هي الأداة الأهم لتحصيل المعرفة، وهي الوسيلة الرئيسة لارتقاء سلم المعرفة بدرجاته الأربع، التي تبدأ بالبيانات، التي تحدِث شكلاً من أشكال الانتباه عند المتلقي، ثم المعلومات، التي هي عبارة عن مجموعة من البيانات المتراكمة بجوار بعضها البعض التي تحقق الإدراك اللازم بظاهرة أو موقف معين، تمهيدًا للوصول إلى مرحلة المعرفة، من خلال جمع مختلف المعلومات المحيطة بظاهرة بعينها، من أجل فهمها بالشكل السليم.
عند الوصول إلى المعرفة السليمة؛ فإن هناك مرحلة رابعة، وهي الحكمة، والتي تعني قدرة الإنسان على التحكم وتطويع الظواهر المحيطة من حوله، بعد فهمها الفهم السليم، وتحقيق التراكم المعرفي الكافي في خصوصها.
هذه المراتب الأربعة للسلم المعرفي، هي محور عملية التكوين الثقافي، التي تتجاوز مجرد حشد معلومات وحقائق بجوار بعضها البعض، إلى آفاق أخرى عملانية، أو ذات طابع عملي ومحتوىً تطبيقي.
أي أن هذا التحصيل والحشد المعلوماتي يجب أن يتم توظيفه والاستفادة منه، سواء في حياة الإنسان الخاصة، أو العامة، وكذلك حياة المجتمعات، وهو مفهوم قريب من مصطلح آخر هو العلوم التطبيقية، فلو لم يتم الاستفادة مما نقرأ، أو يتم توظيفه؛ فهذا معناه أن هناك قصور في آليات التكوين المعرفي والتحصيل الثقافي.
"لابد للقراءة من إطار موضوعي يحكمها، وخطة بعينها توظفها، وإلا حدث شكل من أشكال الخلل في عقل وعاطفة الإنسان"
فالقراءة ليست مطلوبة في ذاتها، وإنما هي أداة ووسيلة لأهداف وغايات أسمى، حتى ما هو منها يهدف إلى تحقيق زاد روحي وإمتاع العقل؛ فهذه كذلك لابد لها من إطار موضوعي يحكمها، وخطة بعينها توظفها، وإلا حدث شكل من أشكال الخلل في عقل وعاطفة الإنسان.
فلو قصر الإنسان قراءاته على ما هو رومانسي أو خيالي من الأدب، من دون ضابط موازٍ له، من القراءات في المجالات الشرعية والأمور الواقعية؛ لتحوَّل الإنسان عن بعض أمور عقيدته، وفسدت قابلية تعاطيه مع الواقع، وبالتالي يفشل في حياته، وبالتراكم؛ تفشل المجتمعات.
ومن هنا، تأتي وطأة مشكلة ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح عبثية القراءة، فنجد أن هناك من يقرأ من دون خطة محددة للتحصيل المعرفي، فيقرأ كتبًا ومصادر غربية، ثم أخرى إسلامية، ثم كتابًا عن الإلحاد، وآخر في الفلك، وذلك من دون منهج واضح، فيحدث شيء من اثنين، إما عدم قدرة الشخص على الاستفادة مما يقرأ، فيكون قد أهدر وقته وموارده هباءً، أو يحدث له خلل، وهو الأمر الأخطر.
ولكن ما هو الصواب في هذا الأمر؟؟
في الموسوعة الحرة؛ فإن الثقافة تعني صقل النفس والمنطق والفطانة، وفي المعجم "وثقَّف نفسه"، اي صار حاذقًا خفيفًا فَطِنًا، وثقفه تثقيفًا أي سواه، وثقف الرمح، تعني سواه وقومه، والمثقف في اللغة هو القلم المبري، وقد اشتقت هذه الكلمة منه حيث إن المثقف يقوِّم نفسه بتعلم أمور جديدة كما هو حال القلم عندما يتم بريه.
ومن ثَمَّ؛ فإنه من أجل الوصول بعملية القراءة إلى هذا المستوى من الاستفادة، فإنه لابد من خطة محكمة للتحصيل، تبدأ بتحديد الأولويات والأهداف المرجوة من وراء فعل القراءة، ثم يتم وضع قائمة بالكتب والمصادر التي تحقق هذه الأولويات والأهداف، وفق خطة زمنية متطورة بحسب سن وموارد الإنسان من الوقت والمال.
"من الضروري أن يضع الإنسان على رأس قائمة أولوياته في مجال القراءة والتحصيل، ما يؤسس لقاعدة فكرية وقيمية متينة لديه"
فالانغماس المفاجئ في القراءة، أو تحميل الإنسان لنفسه أكبر من طاقاته الفكرية وقدراته على الفهم، من خلال خطة طموحة أكثر من اللازم؛ يفسد قابلية الإنسان للاستمرار في محاولات تثقيف نفسه بالصورة الصحيحة.
كما يجب أن تتمتع قراءات الإنسان بالشمول والتكامل قدر المستطاع، مع عدم الشطط في الاهتمامات؛ فيكفي أن يجمع الإنسان بالمعلومات العامة في مجالات الثقافة والمعرفة المختلفة، على أن يتخصص في مجال أو اثنين؛ يكون له فيها اهتمام أو باعث ضروري.
الأهم من ذلك، هو ضرورة أن يضع الإنسان على رأس قائمة أولوياته في مجال القراءة والتحصيل، ما يؤسس لقاعدة فكرية وقيمية متينة لديه؛ لا تتأثر بأية قناعات أخرى للمؤلفين والكُتَّاب الذين يقرأ لهم من ديانات وحضارات وثقافات أخرى؛ كي لا يكون لهؤلاء تأثير سلبيٌّ على عقيدته أو قيمه التي من الواجب عليه كمسلم أن يتحلى بها.
ومن ثَمَّ؛ فإن القراءة فعل حركي، وليست فعلاً ذاتيًّا أو ساكنًا؛ حيث هي ليست مجرد المرور بالعين على سطور ورقة مطبوعة؛ بل هي كون متكامل من التخطيط والتوظيف والاستفادة. ولو وصلت إلى هذه المرحلة؛ فإنك تكون بحق؛ مثقفًا حقيقيًّا!