تتباين أساليب الدّعاة والوّعاظ والمدوّنين و"المغرّدين" في الترويج لمواسم الخير بين مؤمِّل ومرغِّب وبين مهدّد متوعِّد، ومع دخول شهر الخير والبركات لن تخطئ العين ذلك التفاوت العجيب في تهيئة النفوس لاستقباله.
الأمر لا يكاد يتعلق بشهر رمضان وحده مع أنّه من أكثر مواسم الخير ثراءً وكرماً، فالذي يتقن فن التسويق الإبداعي لبضاعة نفيسة غالية، سيحقق نجاحاً مطرداً حتى في أوقات الكساد وسيعقد صفقات رابحات رغم الأزمات والملمّات.
كل ما في الأمر أن من عظم في نفسه أمر ما، لا يمكن أن تتزعزع مكانته مهما تباعدت الأيام عنه أو كثرت الانشغالات بين يديه. من تشربت نفسه حبّ رمضان ولياليه وعرف عظيم قدره عند خالقه ومولاه، سهل عليه وصف أنواره وجميل عطاياه، وتلذّذ بمدح بركاته وسجاياه.. ولا عجب فهو شهر يستبشر بمقدمه أهل الأرض ويحتفي به أهل السماء، ولأنه شهر القرآن ففيه لكل علة دواء، وهو للقلوب شفاء، وفيه من البركات ما يحار في وصفه البلغاء، فلنشهد ما يفعله القرآن بالقلوب العليلة والأرواح الكليلة.
دونكم رمضان أيها العصاة المذنبون، لا تدعوه يفلت منكم، لا تحسبوا أنه سيأتي للطائعين القانتين المخبتين ويتخطّاكم، لا تتركوه إلى غيركم، فهو عطيّة من الرحمن الرحيم لعباده أجمعين، تعرضوا لنفحاته، واسكبوا عبراتكم على بابه، ضعوا أثقالكم من الذنوب والأوزار بين يديه، هلمّوا إليه واثقين برحمة الله وكرمه وعظيم حلمه وفضله.
لا تصغوا لمن قرّع آذانكم بما حصل من نكوص وانتكاس في مرات عديدة و"رمضانات" سابقة، وهل النفوس إلا أمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي، ومن منّا من لا يعترضه جزر بعد مدّ وهبوط بعد ارتفاع إلا من عصم الله، وهل من الذنوب والمعاصي ما يعظم أمام عظيم عفو الله ورحماته، وهل هي أعمال الطائعين التي تبلغهم مراتب الصالحين والصدّيقين أم هي رحمات الله تحيل المسرفين على أنفسهم إلى أصفياء مقرّبين.
إنه الفرصة السانحة لمن تاقت نفسه العتق من أغلال الخطايا والذنوب والابتعاد عن التثاقل إلى الأرض والتحليق في سماء الطاعة والانقياد لربّ العالمين.. وترك الفرصة غصّة ما بعدها غصّة، إنه الباب المفتوح مع الله جلّ في علاه فلا تغلقوه واذكروا مآل ذلك القاطع للطريق زمن الإمام أحمد بن حنبل ففيه عبرة لكل ذي قلب ينبض وعقل يعي. يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:
"كنت أسير في طريقي فإذا بقاطع طريق يسرق الناس، ورأيت نفس الشخص (اللص) يصلي في المسجد، فذهبت إليه وقلت: هذه المعاملة لا تليق بالمولى تبارك وتعالى، ولن يقبل الله منك هذه الصلاة وتلك أعمالك..
فقال السارق: يا إمام، بيني وبين الله أبواب كثيرة مغلقة، فأحببت أن أترك باباً واحداً مفتوحاً. بعدها بأشهر قليلة ذهبت لأداء فريضة الحج، وفي أثناء طوافي رأيت رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة يقول: تبت إليك، ارحمني، لن أعود إلى معصيتك..
"صاحب القرآن كما لم تصاحبه من قبل، سابق الآخرين إلى الصف الأول كأنه لم يخصّص إلا لك، غضّ بصرك عن الحرام كأنه شوك يوشك أن يخرق عينيك، صن لسانك عن الغيبة والنميمة كأنها لغة لم يسبق لك تعلمها"
فتأملت هذا الأوّاه المنيب الذي يناجي ربه، فوجدته لص الأمس فقلت في نفسي: ترك باباً مفتوحاً ففتح الله له كل الأبواب".
تذكّر أن الكثيرين ولجوا باب الهدى والتوبة والخير كله من أذان بصوت ندي سمعوه، أو آية حركت نياط قلوبهم، أو موعظة رقيقة أسبلت دموعهم، أو كلمة أعادت لهم رشدهم، أو خطرة خير قلبت لهم كل حساباتهم.
كلنا يتفنن في إغلاق الأبواب المفتّحة بينه وبين الله، ثمّ عندما يُفتح بابٌ واسعٌ تغشاه رحمات الله ومغفرته، يتفنّن البعض في بث المثبّطات للسالكين دروب التوبة والإنابة والإخبات إلى الله وما دروا أن الأمر كله متعلق بهداية الله ورحمته (إن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده) وما علينا إلا أن نطمع أن نكون ممن شاء الله له الهداية والاصطفاء فنحظى ببركات ليلة القدر التي من معانيها أن المرء لا يكون صاحب قدر عند الله فيصبح ذا قدر ومكانة عند الله بطاعته في ذلك الزمان.
ومن تعثّر في رمضانٍ مضى، فلعله أن يحسن في رمضان الذي أتى ويرغم بذلك نفسه الأمّارة بالسوء ويغيظ الوسواس الخنّاس فلا يصبح لهما عليه سلطاناً بعد ذلك ويكتب من أصحاب الصيام والقيام والقرآن ويحجز له بذلك مكاناً بين الجموع المكتظة على باب الريّان ويفوز فوزاً يسعد معه سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
إنّه رمضان يفتح أبواب الرحمة والمغفرة والعفو من الكريم الحنّان المنّان فافتح له قلبك وعقلك وسلِّمه نفسك وروحك يضع بصماته عليها، ويسمها بوسم التقوى ويهيئها ويعدها لتحرير المسرى لتنعم بالصلاة في المسجد الأقصى مع ثلّة من المصطفين الأخيار الذين أتقنوا التزوّد من خيري الليل والنهار، وعرفوا كيف يتعرضوا لمنح العزيز الغفّار، فتجهزت نفوسهم لمهمّة لا يقوى على حملها إلا الرجال الرجال، فلتضمر النية أن تكون منهم وأن تكون أول ساعات رمضان نقطة البداية لاستسلام تام لأوامر الخالق العلاّم. وإياك إياك والنظر إلى الوراء فأنت إنسان جديد تقتحم أياماً جديدة تغشى أنوارها روحك فتزيل ما علق بها من ظلمات المعاصي والذنوب والركون إلى الدنيا، وتغسل بصفائها أدران قلبك ليعود أقوى وأقوى.
صاحب القرآن كما لم تصاحبه من قبل، سابق الآخرين إلى الصف الأول كأنه لم يخصّص إلا لك، غضّ بصرك عن الحرام كأنه شوك يوشك أن يخرق عينيك، صن لسانك عن الغيبة والنميمة كأنها لغة لم يسبق لك تعلمها، تفنّن في برّ والديك وصلة أرحامك كظامئ يبتغي الريّ في واحتهم. اشغل لسانك بالذكر والدعاء كأنك تدعو أولّ مرة وكأنك تذكر لآخر مرة!! تلذذ بالصيام كأنه أول رمضان لك وتمسك بساعاته كأنه آخر رمضان يحل عليك.