من بين المفاهيم القرآنية المهمة، النهي الإلهي المطلق عن عبادة غير الله سبحانه وتعالى، ولئن كان هناك تشديد في عقيدة الإسلام وشريعته على شيء؛ فإنما هو على عقيدة التوحيد؛ صلب هذا الدين، وحقيقة وجود الإنسان والدنيا بأسرها.
وعقيدة التوحيد في تبسيط غير مخلٍّ بالمحتوى العظيم؛ تعني إفراد الله عز وجل بالعبادة.. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [سُورة "الذاريات"]، وهي أول ما يأمر به الله عز وجل أنبياءه، فيقول سبحانه وتعالى كذلك: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [سُورة "الأنبياء"].
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة التي تؤكد على أهمية التوحيد عديدة، وكثيرة، وتوضح أهمية ذلك، وفي المقابل تؤكد على عاقبة السوء المطلق لمن أشرك بالله عز وجل.
ومن بين أهم صور الخروج عن هذه الحالة التي يجب أن يكون عليها البشر في صدد توحيد الخالق عز وجل، وإفراده بالعبادة؛ عبادة الشيطان، باعتبار أن الشيطان هو أصل الشرور في هذا العالم، وهو وقبيله، مصدر انحرافات البشر في كل زمان ومكان، وهو عدو الله تعالى، والذي وقف أمامه وقفة كِبْر وجحود.
"عبادة الشيطان لا تقف في صورتها على مفهوم العبادة القريب إلى الذهن، بل الأمر أكبر من ذلك، فاتباع الهوى عبادة للشيطان، واتباع إغواءات الشيطان، عبادة له"
وعبادة الشيطان لا تقف في صورتها على مفهوم العبادة القريب إلى الذهن، والذي يعني أداء شعائر الصلاة أو غير ذلك، للشيطان الرجيم؛ حيث يجب وضع الأمر في إطاره الأوسع، والذي يرتبط بممارسات عديدة باتت شائعة بين المسلمين، تُعتبر في صُلب مفهوم "عبادة الشيطان"، كما أراده الله عز وجل، وكما أراد لعباده أن يتفادوه، ومن ثَمَّ؛ فإنه يجب العمل على التأكيد على بعض المفاهيم والممارسات التي تدخل في هذا الإطار، بالشكل الذي يعي معه المسلم حقيقة سعيه في هذه الحياة الدنيا.
البعض يظن أن المفهوم القرآني مقصود به العبادة الصريحة؛ بينما الأمر أكبر من ذلك، فاتباع الهوى عبادة للشيطان، واتباع إغواءات الشيطان، عبادة له، وهكذا.
والأمر أقرب في معناه إلى قضية الفتنة كما وردت في القرآن الكريم، فالفتنة أكبر وأشد من القتل، فنجد البعض يكون حريصًا على عدم إصابة دم حرام، لمسلم أو لغير مسلم، والحديث النبوي في ذلك واضح: "لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ نفسًا حرامًا" [أخرجه البخاري]، ولكنه بممارساته يقود إلى مواقف وأمور؛ يسفك فيها المسلمون دماء بعضهم البعض، أو يستحلون دماء الذميين والمستأمنين، أو يقود المسلمين إلى الكفر والعياذ بالله، سواء كفر النعمة أو كفر الملة، وبعضه مستتر وبعضه صريح.
وفي أقوال عديدة في تفاسير المتقدمين والمتأخرين، للقرآن الكريم، كما في تفسير ابن كثير والقرطبي؛ فإن الفتنة الأكبر من القتل المذكورة في القرآن الكريم، هي الكفر.
هذه المفاهيم غائبة عن الكثير من المسلمين في زمننا هذا، فهو يعبد الله تعالى بالشعائر؛ فيصلي ويصوم، ولكنه، وفي مقابل ذلك؛ يرتشي ويزني ويكذب ويدلِّس، ويثير الفتن بين المسلمين، أو يتبع هواه، ويظن أنه على حق؛ بينما استحوذ عليه الشيطان، وصار من حزبه.
يقول الله عز وجل في هؤلاء: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)} [سُورة "المجادلة"]، وهؤلاء المذكورين في الآية الكريمة، ورد تعريفهم في ذات السُّورة، في الآية الرابعة عشرة منها، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
"من صور عبادة الشيطان، أن يكون البعض من المسلمين موالين لأعداء الله، ويحلفون على الكذب أنهم مع المسلمين"
هؤلاء يكونون بين جماعة المسلمين، ولكنهم يوالون أعداء الله عز وجل، ويحلفون على الكذب، وكلها أمور قد لا ينتبه إليها المسلم، أو قد يفعلها، فيكون في زمرة عبدة الشيطان وحزبه.
واتباع الهوى أحد أهم هذه الظواهر؛ ظواهر عبادة الشيطان والوقوع في زمرة حزبه، وفي القرآن الكريم، ورد النهي عن اتباع الهوى في ثمانية مواضع، منها ما جاء في سُورة "الأعراف": {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}، وآية "الفرقان": {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43)}.
هذه الآيات تقول الكثير في صدد بعض الممارسات التي قد يفعلها البعض عن قصدٍ أو دون قصد، فالركون إلى الدنيا، الأرض، كما في آيتَيْ "الأعراف"، هي إحدى صور اتباع الشيطان، والمقصود بهذه الآية، وفق القرطبي وغيره، كان بلعم بن باعوراء، وكان من مؤمني بني إسرائيل، ولكن عوامل الهوى ممثلة في اتباع قومه؛ قادته إلى الهلاك، فكفر، وكان أمره فرطًا مثل أي إنسان يتبع هواه.
وهي أمور منهية بالخطاب القرآني الصريح الواضح؛ فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ (21)} [سُورة "النُّور"]، ويقول أيضًا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين (60)} [سُورة "يس"].
وفي سُورة "القَصَص": {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)}.
هنا اتباع الهوى هو أكبر صُور الضلال، وهو صنو الظلم الذي حرمه الله تعالى على نفسه وعلى عباده، وآية "القَصَص"، الموجهة إلى الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، لم تشِر في ثناياها إلى أن المقصود بها مشركي مكة المكرمة؛ فالسُّورة مكِّيَّة، ولكن المقصود بها أهل الكتاب، ممن أوتوا العلم ويعلمون أن النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وبعثته هي الحقَّ، ويجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل؛ إلا أن الهوى والمصالح، قادتهم إلى عدم الإيمان بالنبي الخاتم، "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
هنا، في هذه الحالات، من تاريخ بني إسرائيل وأهل الكتاب؛ قاد اتباع الشيطان والهوى، إلى الكفر، وهو ما يتكرر بين ظهرانيي المسلمين في هذا الزمان.
وفي الأخير؛ نريد القول أن المؤمن الحق، هو من يتفادى اتباع الهوى والشهوات وخطوات الشيطان كافة، وأن يواجه كل ذلك بعزيمة لا تلين خصوصًا في وقتنا الراهن الذي يكن فيه القابض على عبادته ودينه، كالقابض على الجمر.