حتى لا يضيع أجر عبادتك في رمضان

الرئيسية » بصائر تربوية » حتى لا يضيع أجر عبادتك في رمضان
العبادة6

لا شك أن هذا الشهر الفضيل، هو موسم في غاية الأهمية بالنسبة للمسلم، فقد أعد الله لمن صامه وقامه أجراً عظيماً، وثواباً جزيلاً، قال صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" (متفق عليه).

وفي سبيل إدراك هذه الفضيلة تتنوع الأمور التي يقوم بها المسلم في هذا الشهر المبارك، بين الطاعات الفردية، والجماعية، طلباً للثواب، وسعياً لنيل الأجر العظيم.

لكن هناك ما يضيع أجور الأعمال، ويطيح بثوابها، وهو أخطر ما يتهدد المسلم في وقتنا الحالي، خصوصاً في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وسهولة نقل المعلومة بين الناس، بحيث يهتك المسلم ستر الخصوصية المتعلقة بالعبادة، ويجعلها عبادة علنية، فلا يبقي أية علاقة تربطه بينه وبين الله، إلا وأطلع عليها الناس.

الرياء الإلكتروني .. خطر فتاك

"إن خطورة الرياء والتحذير منه في السابق، لا تقارن بما نحن عليه من تقدم وزيادة في التواصل، وسهولة في نقل المعلومة والأحداث بين الناس"

لا شك أن هذه التسمية هي تسمية محدثة، حيث كان المرء سابقاً يسعى لإظهار العمل بالحديث أمام الناس فقط، فيكون قد قصد إظهار العبادة لبضع أفراد من الناس، في حين أنه في وقتنا بات أكثر خطورة، خصوصاً أنه صار مدعماً بالصور، أو بالفيديو، وفي الوقت نفسه بإمكان المئات إن لم يكن الآلاف مشاهدة وقراءة ما قام بفعله.

إن خطورة الرياء والتحذير منه في السابق، لا تقارن بما نحن عليه من تقدم وزيادة في التواصل، وسهولة في نقل المعلومة والأحداث بين الناس.

ومن المؤسف أن تقرأ في رمضان، من يكتب "صليت اليوم ركعتين بكيت فيهما من خشية الله" أو "كم انهمرت دموعي أمس أثناء قراءة سورة يوسف" في حين يكتب آخر "شعور جميل انتابني حينما أعطيت صدقة لجارنا الفقير" بل يتعدى الأمر ليقوم أحدهم بتصوير نفسه وهو يعطي الصدقة ليتيم أو فقير، ثم يكتب الحمد لله الذي أعانني على هذه الطاعة ورسم الابتسامة على وجهه.

ولا زالت حمى "السِّلْفي" تنتقل بين الناس، بين من يلتقط صورة له وهو يقرأ القرآن، أو وهو يصلي!! أو حتى يطلب من الآخرين أن يستمعوا لقراءته التي سجلها في بيته أثناء قيامه لصلاة الليل منفرداً.. إلى غير ذلك من الصور.

قد يظن البعض أني أضيق واسعاً في بعض الأمور، وأنني أدخل في النوايا، والحقيقة أنني أنتقد ظاهرة بشكل عام، دون أن أتطرق لنوايا الناس، فليس من الجيد أن يقوم البعض بإظهار كل ما يقوم به من أعمال، بحيث يشعر أنها لا تكون لها فائدة إن لم يظهرها للناس.

بين السر والعلن

المستقرئ للنصوص الشرعية وآثار السلف الصالح، يجد أنها تدل على تفضيل إسرار العبادة خصوصاً النوافل على إظهارها للناس. وهناك العديد من الأحاديث النبوية الواردة في هذا الشأن، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "من استطاع منكم أن يكون له في خبء من عمل صالح فليفعل" (رواه الخطيب وصححه الألباني). ويقصد بــ (خبء من عمل صالح) الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس، والتي تكون خالية من الرياء.

وقد كان السلف الصالح لديهم الكثير من المواقف في هذا الشأن، منها:

- قال محمد بن واسع: لقد أدركتُ رِجالاً؛ كان الرجل يكون رأسه ورأس امرأته على وِساد واحد؛ قد بَلَّ ما تحت خده مِن دموعه؛ لا تشعر به امرأته، واللهِ لقد أدركتُ رِجالاً؛ كان أحدهم يقوم في الصف، فتسيل دموعه على خده لا يشعر الذي إلى جنبه.

- وقال الحسن البصري: كان الرجل ليجمع القرآن ولم يشعر به الناس، وإنْ كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولم يشعر به الناس، وإنْ كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر به الناس، ولقد أدركت أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدًا.

وقد يحتج البعض بقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]. فالآية تبين جواز إظهار العبادة، مع أفضلية إخفائها.

"الإسرار بالعبادة في النوافل أفضل؛ لأن فيها حماية للنفس من الرياء وحب السمعة والشهرة. كما أن الجهر بالعبادة يكون أفضل في الفرائض؛ لإبعاد التهمة عن الشخص"

ولست هنا لمناقشة مدى جواز علانية العبادة، لكن الآية بينت بشكل صريح أن الإسرار بالصدقة أفضل؛ لأن فيها حماية للنفس من الرياء، وحب السمعة والشهرة. كما أن الجهر بالعبادة يكون أفضل في الفرائض؛ لإبعاد التهمة عن الشخص، في حين أن الإسرار يكون أفضل في نوافل العبادات.

وفي هذا يقول علماء التفسير رحمهم الله:

• قال ابن كثير: "فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية".

• وقال القرطبي: "ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع؛ لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار. وكذلك سائر العبادات الإخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات.. وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك".

• وقال الشيخ أبو زهرة: "أي إن تخفوا الصدقات التي خلصت فيها النية وتؤتوها الفقراء بأنفسكم فهو خير لكم؛ لأن البعد عن الرياء يكون أوثق؛ إذ في السرية سد لكل ذرائع الرياء، ولذلك كان السر خيرًا للمعطي؛ إذ فيه احتياط لنفسه من أن يدخلها داء الإنفاق، وهو الرياء؛ فإذا كان في الجهر فائدة الثناء، ففي السر فائدة الاحتياط من الرياء؛ وذلك خير من كل ثناء".

• قال سيد قطب: "وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعاً أولى وأحب إلى الله وأجدر أن تبرأ من شوائب التظاهر والرياء. فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة، وفشو هذا المعنى وظهوره خير"

ملاحظات..

"لا بأس بإظهار العبادات التي يكون فيها تشجيع للناس على فعل الخير، أو يقصد من ذلك تحفيز الناس على الإقبال على هذا الفعل، والتي غالباً ما تقوم بها المؤسسات والجمعيات الخيرية أو غير ذلك"

رغم ما تقدم من نصوص وآثار تؤكد أفضلية الإسرار بالعبادة على الجهر بها، فإنني لا بد أن أستدرك بعضاً من الأمور المتعلقة بهذا الشأن، بحيث أختم بها حديثي حول هذا الأمر:

1- لا بأس بإظهار العبادات التي يكون فيها تشجيع للناس على فعل الخير، خصوصاً إذا كان البعض غافلاً عنها، أو يقصد من ذلك تحفيز الناس على الإقبال على هذا الفعل، والتي غالباً ما تقوم بها المؤسسات والجمعيات الخيرية أو غير ذلك، فهذه لها صفة اعتبارية، ولا تتعلق بشخص معين، وإنما تشمل كل المنضوين أو المنتمين لها.

2- بعض الناس يبالغ في الإسرار والخفاء، بحيث لا يحب الظهور حتى في المواضع التي يتطلب وجوده فيها، كإلقاء دروس العلم والمواعظ والإمامة، أو تصدر الأعمال الخيرية؛ خوفاً من الرياء. وهذا أمر مبالغ فيه، وقد يدخل فيه نية أخرى، بحيث يمنعه خوفه من الرياء القيام بالعمل الصالح.

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجلهم شرك). وقال العز بن عبد السلام: (الشيطان يدعو إلى ترك الطاعات فإن غلبه العبد وقصد الطاعة التي هي أولى من غيرها أخطر له الرياء ليفسدها عليه، فإن لم يطعه أوهمه أنه مراء وأن ترك الطاعة بالرياء أولى من فعلها مع الرياء، فيدع العمل خيفة من الرياء؛ لأن الشيطان أوهمه أن ترك العمل خيفة الرياء إخلاص والشيطان كاذب في إيهامه إذ ليس ترك العمل خوف الرياء إخلاص".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب فلسطيني، متخصص في الشريعة الإسلامية والسياسة، مهتم بالإعلام والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …