قبل أربعة عشر قرناً ونيف، ظهرت تلك العلاقة الوطيدة، علاقة لا تنفصل زماناً ومكاناً، وكان مجسِّد هذه العلاقة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، كان يختلي بنفسه في ذلك الغار وحيداً؛ حين أتاه جبريل فأسمعه كلمة اقرأ، {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق:1]، فكان أول نزول للنور على النور محمد -صلى الله عليه وسلم- في شهر النور، شهر رمضان المبارك.
منذ فجر الإسلام رمضان والقرآن متلازمان، فرمضان شهر القرآن، شهر التلاوة والتدبر والتطبيق للآيات، فالعناية بالقرآن في هذا الشهر أكبر، والأجر فيه أعظم، قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة:185] وجعل الله لليلة التي نزل بها القرآن جملة واحدة مكانة وأجر عظيمين وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر:1].
نبينا -صلى الله عليه وسلم- والقرآن في رمضان:
للقرآن في رمضان عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مكانة عظيمة، فعلاوة على أن أول نزول كان عليه من الآيات في رمضان، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يراجع الآيات مع جبريل في كل ليلة من ليالي رمضان، فكان القرآن أنيس النبي –صلى الله عليه وسلم- وسميره، فقد روى ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) (متفق عليه). قال ابن رجب: "في الحديث دلالة استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له"، فكان شغل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان هو القرآن الكريم.
الصحابة والسلف الصالح وعلاقتهم بالقرآن في رمضان:
وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهجه في الاهتمام بالقرآن في رمضان، وكانوا يتعاهدون القرآن بالتلاوة والتدبر فهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه-: يفر من الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وعثمان بن عفان يختم في كل يوم القرآن، وأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس في رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كان الصحابة يعتمدون على العصي من طول القيام...".
وأما السلف الصالح فحدث ولا حرج فقد كان الزهري -رحمه الله- إذا دخل رمضان يقول: "إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام" وكان مالك بن أنس إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس العلم وأقبل على قراءة القرآن من المصحف، وكان إبراهيم النخعي يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليالٍ وفي العشر الأواخر في كل ليلتين.
اقتراحات عملية:
وحتى يكون تواصلنا مع القرآن أكثر وأدوم، أضع بين يديك عزيزي القارئ بعض الخطوات العملية لزيادة التواصل بالقرآن الكريم خلال هذا الشهر الفضيل:
"احذر من التلاوة السريعة التي هدفها عد الختمات من غير فائدة أو تدبر، بل اجعل قراءتك بتمهل ووعي لما تتلوا، فذلك من سنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم"
أولاً: اجعل القرآن الكريم من أولويات اهتمامك؛ فكما نقلت عن السلف الصالح والعلماء أنهم كانوا يجعلون للقرآن جل وقتهم، وبعضهم كان يترك تدارس العلم والاشتغال به وينصرف لتلاوة القرآن والعناية به، فهذا يعد من باب استغلال المواسم والاهتمام بالأهم وتقديمه على المهم، وان استطعت فأخّر بعض الأعمال التي لا يؤثر تأخرها إلى ما بعد رمضان.
ثانياً: ليكن اهتمامك بالقرآن متنوعاً، فلا تقصره على التلاوة فقط، بل اجعل جزءاً للخلوة بالقرآن والتدبر، وجزءاً للمراجعة والحفظ، وجزءاً آخر للتفسير، واختر بعض الآيات وطبقها في حياتك العملية، حتى تكون الفائدة أكبر وأشمل.
ثالثاً: لا بأس بأن تضع خطة للعبادة وليكن للقرآن منها الحظ الأوفر، فتحدد ما تريد تلاوته وحفظه أو تفسيره، فذلك أدعى للالتزام بهذه العبادة والمحافظة عليها في هذا الشهر العظيم.
رابعاً: احذر من التلاوة السريعة التي هدفها عد الختمات من غير فائدة أو تدبر، بل اجعل قراءتك بتمهل ووعي لما تتلوا، فذلك من سنة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ختاماً.. المؤمن الفطن من يستغل مواسم الخير والطاعات، وأعظم هذه المواسم هو رمضان، ومن أعظم العبادات فيه تلاوة القرآن وتدبره، فاجعل لك نصيباً كبيراً من ذلك، فلعل القرآن والصيام يشفعان لنا يوم القيامة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان) (رواه مسلم).