أصل (الإخبات) في اللغة من الخَبْت، وهو المكان المنخفض والمطمئن من الأرض، ضد المُصعد والمرتفع؛ ثم استعير لمعنى التواضع، كأنَّ المُخْبِتَ سَلَك نفسه في الانخفاض، فأصبحت سهلة سمحة مطواعة.
وقد وردت مفردة (الإخبات) في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع هي؛ قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}. ]هود:23[. وقوله سبحانه: {فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين} ]الحج:34[. وقوله عزّ وجل: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم}. ]الحج:54[.
عن مجاهد في قوله عزّ وجل: {وبشّر المخبتين} قال: هم المطمئنون، وقيل: هم المتواضعون؛ والمراد بهم المؤمنون؛ لأنَّ التواضع من شيمهم. وقال المفسّرون في تفسير قوله تعالى: {وأخبتوا إلى ربهم} أي: أطاعوا ربَّهم أحسن طاعة، وتواضعوا لأمره بامتثاله؛ وأيضًا فُسِّر قوله تعالى: {فتخبت له قلوبهم} بأنَّه التواضع، أي: فيستقر الحق في قلوبهم فيخضعوا له، ويستسلموا لحكمه.
وقد عدّ الإمام ابن قيم الجوزية الإخبات منزلة من منازل (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)، وقال: "لمَّا كان الإخبات أول مقام يتخلّص فيه السالك من التردّد -الذي هو نوع غفلة وإعراض- والسالك مسافر إلى ربّه، سائر إليه على مدى أنفاسه، لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفسه يصحبه، شبَّه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة في أول مناهله، فيرويه مورده، ويزيل عنه خواطر تردّده في إتمام سفره، أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر. فإذا ورد ذلك الماء زال عنه التردّد وخاطر الرجوع. كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلّص من التردّد والرّجوع، ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره، وجدَّ في السير".
"السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلّص من التردّد والرّجوع، ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره، وجدَّ في السير"
فالنّفس جبل عظيم شاقّ في طريق السّير إلى اللّه عزّ وجلّ وكلّ سائر لا طريق له إلّا على ذلك الجبل. فلا بدّ أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاقّ عليه، ومنهم من هو سهل عليه، وإنّه ليسير على من يسّر اللّه عليه. وفي ذلك الجبل أودية، وعقبات، وشوك، ولصوص يقتطعون الطّريق على السّائرين ولا سيّما أهل اللّيل المدلجون. فإذا لم يكن معهم عُدد الإيمان، ومصابيح اليقين تتّقد بزيت الإخبات، تعلّقت بهم تلك الموانع. وتشبّثت بهم تلك القواطع. وحالت بينهم وبين السّير.
وذكر ابن قيم أنَّ لهذه المنزلة ثلاث درجات؛ الأولى: أن تستغرق العصمة الشهوة وتستدرك الإرادة الغفلة. ويستهوي الطلب السلوة؛ فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة. فتستغرق عصمته شهوته. فالحاصل: أن عصمته وحمايته تقهر شهوته. وإرادته تقهر غفلته. ومحبته تقهر سلوته.
والدرجة الثانية: أن لا ينقض إرادته سبب. ولا يوحش قلبه عارض. ولا يقطع عليه الطريق فتنة. فإذا تمكّن من منزل الإخبات اندفعت عنه هذه الآفات؛ لأنَّ إرادته إذا قويت، وجد به المسير لم ينقضها سبب من أسباب التخلف. ولا يوحش أنسه بالله في طريقه عارض من العوارض الشواغل للقلب، والجواذب له عمن هو متوجه إليه.
"إنَّ لخلق الإخبات في حياة المسلم أثراً كبيراً في شخصيته، فهو يعصمه ويحفظه من الوقوع في المعاصي، والميل إلى الشهوات"
أمَّا الدرجة الثالثة: أن يستوي عنده المدح والذم، وتدوم لائمته لنفسه. ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته. يقول ابن قيم: "اعلم أنَّه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها ارتفعت همته، وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم. فلا يفرح بمدح الناس. ولا يحزن لذمهم. هذا وصف من خرج عن حظ نفسه، وتأهل للفناء في عبودية ربّه. وصار قلبه مطرحاً لأشعة أنوار الأسماء والصفات. وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه".
إنَّ لخلق الإخبات في حياة الأخ المسلم أثراً كبيراً في شخصيته، فهو يعصمه ويحفظه من الوقوع في المعاصي، والميل إلى الشهوات، ويربّي وينمّي لديه المحبَّة الصادقة، التي تجعله يقهر كلّ ما عداها من مغريات الحياة، ويجعله ذا عزيمة قويّة، ويخلّصه من حظ النفس والتأثر بمدح الناس وذمّهم، وعدم الرّضا عن النفس، كما أنَّه يقوّي لديه الإرادة التي تبعده عن الفتور والغفلة.