نحو رؤية معاصرة لحماية الدعوة

الرئيسية » بصائر الفكر » نحو رؤية معاصرة لحماية الدعوة
الدعوة6

لا ينكر أحد حجم ما تتعرض له الدعوة الإسلامية وحركاتها العاملة على الميدان من مؤامرات وحرب شرسة، تستهدف القضاء عليها، أو تقليص دورها الفاعل وتحجيمها، وإسكات صوتها، من خلال العديد من الوسائل والأساليب التي تتنافى مع أبسط الحقوق والحريات.

والحقيقة الواضحة، أن ما تتعرض له الدعوة ليس وليد اليوم، بل هو موجود منذ بعثة الأنبياء عليهم السلام، وصراع الحق مع الباطل، وسعي أصحاب الباطل للقضاء على صوت الحق وإسكاته.

وبما أنها معركة قديمة جديدة، لا بد لمن يسير على ركب الدعوة، وخصوصاً قادتها، أن يكونوا واعين بسنن مواجهة الباطل، وأن لا يتواكلوا في هذا الصراع، بحيث يضعف الدعوة ويضر أفرادها.
إن الدعوة إلى الله في ظل وجود أهل الباطل، ليست بالأمر السهل، خصوصاً إذا اقترن الأمر بالسعي لتحرير الأرض من الاحتلال، أو محاربة صور الاستبداد والفساد وانتزاع الحقوق من أفراد الأمة، فهي ستواجه حروباً ضروساً على جميع الصعد، الأمر الذي يحتاج إلى وضوح في الرؤية، وقدرة على التعامل مع المتغيرات، ومهارة في تجاوز العراقيل والمعوقات بأقل الخسائر.

"يستحيل أن تظل الدعوة سائرة دون خسائر وتضحيات، بل هي قرينة لها، لكن القائد الذكي هو الذي يبذل جهده في إدارة الصراع ولا يستسلم لليأس، أو يتنكر لأهمية إدارة المعركة بذكاء ودهاء"

يستحيل أن تظل الدعوة سائرة دون خسائر وتضحيات، بل هي قرينة لها، لكن القائد الذكي هو الذي يبذل جهده في إدارة الصراع ولا يستسلم لليأس، أو يتنكر لأهمية إدارة المعركة بذكاء ودهاء.

ولنا في النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم قدوة عملية، إذ إنه لم يتوكل على أن الله سينصر دعوته، بل سعى بشتى السبل لإنجاحها، بدءاً من سرية الدعوة، وانتهاء بإقامة دولة المدينة وإعداد الجيوش وعقد العهود والمواثيق.

تأصيل واستدلال

يحتاج الداعية إلى العديد من الوسائل لحماية الدعوة، منها الوسائل الداخلية، بزرع الإيمان وتقويته في النفوس، والاهتمام بالجانب التربوي وتنمية المعرفة عندهم، والاهتمام بقوة الصف وتماسكه، وانتشار ثقافة الثقة والوحدة بين أفراده.

لكن في الوقت نفسه، فإن البعد الخارجي المتمثل بقوة العلاقات الرسمية والشعبية مع الآخرين، لا يقل أهمية عن الشأن الأول.

وفي وقتنا نجد الكثير من الدعاة يوجهون جهدهم للصف الداخلي وهذا أمر جميل، لكن تناسي أهمية العلاقات الخارجية، والاستفادة منها ومن القوانين المتعلقة بها، تناقض مع خطى وسنن المرسلين عليهم السلام.

ففي سورة هود، نجد أن قوم شعيب امتنعوا عن إيذائه بسبب المنعة القبلية، والبعد العشائري، في قوله تعالى: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} [هود:91]. ونلاحظ أن سبب منع إلحاق الأذى بسيدنا شعيب عليه السلام، يتعلق بحماية البعض القليل من أقاربه من أذى "الكافرين" له، وهو ما أشار إليه بعض المفسرين في تفسيرهم للآية الكريمة.

يقول الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان: "وهذه الآيات القرآنية تدل على أن المسلمين قد تنفعهم عصبية إخوانهم الكافرين".

ويقول سيد قطب في الظلال: "وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية؛ فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا؛ فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة؛ ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه؛ وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه. أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية".

" السيرة النبوية مليئة بالخطط النبوية التي سعت لحماية الدعوة، خصوصاً في مرحلة الاستضعاف التي كانت في مكة المكرمة، وما واجهته من بطش من قبل قريش"

وهذا ما حصل لمن يتأمل في السيرة النبوية، حيث كان البعد القبلي كفيلاً بالحماية من الاعتداء، وفي الوقت نفسه إيجاد غطاء أو بعد سياسي يحمي الدعوة، وهو وإن لم يكن مثالياً، إلا أنه حماها من الوأد والقتل والاندثار.

ومع ذلك لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بالبعد القبلي فحسب، بل إن السيرة النبوية مليئة بالخطط النبوية التي سعت لحماية الدعوة، خصوصاً في مرحلة الاستضعاف التي كانت في مكة المكرمة، وما واجهته من بطش من قبل قريش.

ومن ذلك، استغلال بعض القوانين التي كانت سائدة داخل المجتمع "الجاهلي" مثل الاستجارة وطلب الحماية، فالنبي صلى الله عليه وسلم استجار بالمطعم بن عدي بعد عودته من الطائف، وقام المطعم بحماية النبي صلى الله عليه وسلم من أذى قريش، وكما جاء في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى مكة، أرسل رجلا من خزاعة إلى مُطْعَم بن عدي: أدخل في جوارك؟ فقال: نعم، فدعا بنيه وقومه، وقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرتُ محمداً، فدخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم على راحلته، فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمداً، فلا يهجه أحد منكم، فانتهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الركن، فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته ومطعم وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته.

إن النبي صلى الله عليه وسلم كان بإمكانه أن يدخل مكة دون حماية من أحد، فيكفيه أن الله يحميه، لكنه شرع للأمة مبدأ مهما، وهو أهمية الاستفادة من القوانين "الوضعية" في سبيل حماية الدعوة وأفرادها. ولهذا يمكن أن يستدل من هذا الفعل على أهمية استخدام بعض القوانين والأعراف الدولية والحقوقية المعاصرة في حماية الدعوة، مثل قوانين حقوق الإنسان، والاتفاقيات والمعاهدات الدولية وغيرها.

ومن الأمثلة على المنهج النبوي في حماية الدعوة، أمره عليه السلام لبعض الصحابة للذهاب إلى الحبشة؛ لحمايتهم من الأذى، واستغلال عدل النجاشي في الحفاظ على دعوتهم وكلمتهم. وهو نظير اللجوء السياسي في وقتنا الحالي، فالنجاشي لم يكن عربياً، ولم يكن على دين المسلمين آنذاك، لكنه تشريع نبوي يؤكد على أهمية استغلال كل وسيلة في حماية الدعوة، طالما أنها لا تعود على أصل الدين وركائز دعوته بالبطلان.

خطوات عملية

الواقع الصعب الذي تواجهه الدعوة، يتطلب منها وخصوصاً من قادتها معرفة كافة السبل التي لا تحمي الدعوة فحسب، بل تحمي كل فرد فيها.

"إن المجتمعات الحديثة وقبلها القديمة، لا تراعي مبدأ الحرية، واحترام صاحب الحق، ولا تنظر أبداً إلى مفهوم صلاح الشخص والتزامه، أو مدى الظلم الواقع عليه، بقدر ما تراعي مصالحها الذاتية وعلاقتها بالآخرين"

إن المجتمعات الحديثة وقبلها القديمة، لا تراعي مبدأ الحرية، واحترام صاحب الحق، ولا تنظر أبداً إلى مفهوم صلاح الشخص والتزامه، أو مدى الظلم الواقع عليه، بقدر ما تراعي مصالحها الذاتية وعلاقتها بالآخرين.

ولذلك حتى تكون الحركة الإسلامية سائرة على هذا المنهج تحتاج إلى توفير مجموعة من الأمور:

1- دراسة القوانين المحلية والدولية، والاستفادة من الجوانب الحقوقية والاتفاقيات الدولية المتعلقة بهذا الشأن، وهو ما يحتاج إلى إيجاد مختصين بالقانون، ولا بأس أن تتبنى الحركة مجموعة من الطلبة الأذكياء ليتعلموا القانون وما يتعلق به من أقسام، في سبيل تحقيق الأمر الأهم وهو حماية الدعوة.

2- إيجاد الخبراء السياسيين الذين يستطيعون قراءة المشهد السياسي الداخلي والخارجي، بحيث يدرسون كل الخيارات والسيناريوهات المطروحة، ولا يتعاملوا مع الواقع المعقد كمن يعيش في حلقة مسجدية كل أفرادها من المؤمنين الصادقين. بالإضافة إلى عقد التحالفات مع التيارات الأخرى، وحسن إدارة العلاقة معهم وكسبهم إلى صفهم.

3- الاهتمام بالعلاقات العامة مع المؤسسات الحقوقية والصحفية وغيرها، من حيث إيجاد المختصين والقادرين على بناء هذه العلاقات، وإقناعهم بعدالة القضية، وصحة دعوتهم، لكسبهم إلى جانبهم حين المحن ومواجهة المصاعب.

4- مخاطبة المجتمعات الأخرى مؤسسات وأفراد، والتحدث معهم لإيجاد رأي عام يضغط على الطبقة السياسية، تماماً كما في المجتمعات الغربية.

5- الاستفادة من قوانين الجنسية في بعض الدول لإكساب بعض الأفراد الحرية والحصانة، والقدرة على التعبير والدفاع عن الدعوة ورد الشبهات المثارة حولها.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب فلسطيني، متخصص في الشريعة الإسلامية والسياسة، مهتم بالإعلام والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …