اقتضت حكمة الله عزّ وجل أن تخضع حركة الوجود في الحياة لسنن ونواميس إلهية، تتصف بأنّها محايدة مضطردة، لا تنحاز لحضارة، ولا تحابي جماعة، وتجري على الجميع بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس، وتعد هذه السنن حاكمة على الكون، حافظة له من الفوضى. وإنّ الحركة الحضارية للأمم والجماعات والأفراد محكومة بهذه السـنن والقوانين، وصدق الله القائل: {كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}. [الإسراء:20].
وتقسَّم هذه السنن إلى سننٍ وقوانين جزئية، وأخرى كليّة جامعة، وهما متكاملتان لا غنى لواحدة عن الأخرى، فالأولى تمنح كلّ من يوظِّفها ويسخرها ويلتزم بها على قدر سعيه، ومن أمثلتها سنن الآفاق والأنفس، وسنن الرّقي المادي والعلميّ، ويستطيع كلّ مخلوقٍ أن يستفيد من هذه السنن؛ لقول الله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}. [آل عمران:145].
أمّا السنن الكليّة فهي الركائز السليمة لبناء الحضارات والجماعات والأمم، ومن أهمها الإيمان؛ لقول الله عزّ وجلّ: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}. [آل عمران:96].
وإنّ عمارة وقيام الجماعات، وكذلك انحسار فعلها وسقوطها، كله يخضع لهذه السنن الجزئية والكليّة، وتبرز جملة من الأسس التي ينبغي الإحاطة بها لفهم حركة تآكل ونهش وإضعاف الجماعات:
"إنّ أسباب سقوط الجماعات تكمن في صميم إرادة وموقف ودور الإنسان نفسه، لا في الجوانب المادية"
1- إنَّ أسباب سقوط الجماعات تكمن في صميم إرادة وموقف ودور الإنسان نفسه، لا في الجوانب المادية، وهذا يُستنتج من حكمة استخلاف الإنسان في الأرض، وتكليفه بعمارتها. وقد أرشدنا الله عزّ وجل إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}. [الرعد:11].
2- كل جماعة تصطبغ في منهجها كله، وفي إنتاجها جميعه بالدين أو الفكر التي تستند إليه، وهو الذي يتحكم بها. وتأسيساً على ذلك؛ فإنّ الجماعات الإسلاميّة هي ذات نزعة مبدئيّة، تدور مع الإسلام حيث دار.
3- للفساد بمعناه الواسع، والذي يطرأ على السلوك ويدبّ في الأرواح دور رئيس في تغيير الاتجاهات والقيم، وهو يطمس الصفات الكريمة، ويضعف الملكات الحميدة، وينمي النزاع، ويعبث بالانضباط، وتعم به الفوضى، وينحط به المنطق والأدب والعرف. وكلما التزمت الجماعة بالقيم الفضلى وسعت إلى تأصيلها في البنية الاجتماعية لكيانها؛ كانت أقدر على حماية وحدتها، وأبعدت عن نفسها أذى التدهور والسقوط.
4- ليس دائماً يكون السقوط بالزوال والفناء، وإنما قد يتمثّل بالتفتت والتّشظي، والانهيار الداخلي، وذهاب القوة والعزة، والهوان على الناس، وبالتنازل عن المركز القيادي، والتراجع عن الدور الريادي في المجتمعات.
5- يمكن للجماعة التي تعرضت للسقوط أن تنهض من كبوتها، وتبدأ من جديد؛ وذلك باستكمال شروط النهوض، والذي يعد تغيير النفس أو التغيير الداخلي أهم خطواته.
"سيبقى السقوط كما النهوض خياراً ذاتيّاً للجماعة، وواهمٌ من يظن أنّه بيد الآخر، وإنّ عوامل النهوض والتمكين دوماً ممكنة، ومحكومة بسنن الله الماضية"
6- يعدُّ الظلم بمفهومه الشامل من أبرز عوامل انهيار الجماعات، وهو سبب لظهور اعتلالات نفسية واجتماعية وأخلاقيّة، والفساد نتيجة حتميّة للظلم، وصدق الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. [هود:102].
7- بالنسبة للجماعة المسلمة فإنّها تستمد مقوماتها من الإسلام، وهو المحفز لحركتها والضابط لأدائها، ونظراً لأنّ القرآن الكريم محفوظ؛ فإنّ ما تتعرض له الجماعات من انهيار؛ يتمثل في الفعل الدعويّ، ومدى التّأثير والفاعلية، وليس في الأصل النظريّ الخالد؛ فإنّ الدين مبرأ عن العيب.
8- يمكن للجماعة المسلمة أن تنهض من عثارها بفعل جهود المجددين من أبنائها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دينها)). [أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم].
9- يجب التفريق بين السقوط أو الانهيار والتوقّف عن الفعل، والثاني هو قرارٌ ذاتيّ ناتج عن تعطل قد يطول، وقد يفضي إلى مراجعات ومعالجات، يكون لها أثر إيجابي على مستقبل العمل الدعويّ.
10- إنّ للإحساس بالاستبداد من طرفٍ ما تداعياته الخطيرة على مستويات الولاء للجماعة، ومدى الفاعليّة الدعوية، وهو يعطل الطاقات، ويشكّل فرصة للانفصام والتمزّق بين الفواعل المختلفين، وكثيراً ما يكون ذلك واضحاً في التباين بين القيادة التنفيذية والنخبة السياسية أو الفكريّة؛ ممَّا يؤسس لتمزّق نسيج الجماعة، ولظهور النزعات التفككيَّة.
11- إنّ التعصب سرطان ينتج الانهيار، وهو يتنافى مع قيم الإسلام، ويصل الأمر بالمتعصّب أن تصير أقوال أصحابه مقدمة على الشريعة ذاتها؛ حتى أصبح بعض المتعصبين يقول: ((كلّ آية أو حـديث تخـالف ما عليـه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ)).
إنّ أيّ إصابة تلحق بالجماعات في وجودها أو أبنيتها هي انعكاس مباشر للحال التي وصلت إليها؛ على مستوى الأفراد والقيادة والأداء. وسيبقى السقوط كما النهوض خياراً ذاتيّاً للجماعة، وواهمٌ من يظن أنّه بيد الآخر، وإنّ عوامل النهوض والتمكين دوماً ممكنة، ومحكومة بسنن الله الماضية.