أيها المسلم.. هل تعرف ربك الذي تعبُد؟!

الرئيسية » بصائر الفكر » أيها المسلم.. هل تعرف ربك الذي تعبُد؟!
العبادة 26

مرَّت بالأمة خلال القرنَيْن الأخيرَيْن الكثير من الأمور التي مست هويتها، وذلك من خلال التأثير على العديد من المفاهيم الأساسية المرتبطة بالعقيدة والمعارف الأساسية للفرد المسلم، والتي هيأت بالتالي لخروج المجتمعات المسلمة عن صحيح دينها.

وتم ذلك من خلال أكثر من أداة، كان على رأسها التأثير على التعليم الديني، وقصره على أمور لا يعلم من خلالها المسلم أهم ما في دينه، مثل معرفة ربه، أو ما يُعرف في أماكن العلم، بعلم "التوحيد"، ومعرفة رسالته كمسلم؛ لماذا خلقه الله تبارك وتعالى، وفيمَ استخلفه، وما هي واجباته، والذي عليه في هذه الدنيا، باعتباره من أهل الإيمان والتكليف.

ويخدم ذلك مشروعات ومخططات لأطراف عدة تسعى إلى فصل الأمة عن دينها، من أجل تسهيل مهمتها على صعيد أمة المسلمين، تشكل فيما بينها تحالفًا أسوداً شيطانيًّا، يمثل قوى الاستكبار والاستعمار العالمية، وأنظمة الفساد والاستبداد، بجانب الكيانات التي تستمد حياتها من ضعف وفساد حال الأمة، وعلى رأسها الكيان الصهيوني.

مكَّنت هذه الحالة، تلك القوى المتحالفة، المتآلفة فيما بينها في الأهداف والآليات، من بسط نفوذها على الأمة؛ فزالت دولة الخلافة، وسقطت دروع الأمة؛ محققةً منظومة أهداف معقدة، تشمل الاستيلاء على ثروات الأمة، وهدم الحضارة الإسلامية، التي كانت الوحيدة التي استطاعت سيادة العالم، بقيم العدل والمساواة والرحمة، وأدالت عروش الظلم والكفر والطغيان في المشرق والمغرب.

غَرَست عملية غياب التعليم ومناشط التثقيف والتلقين الديني الإسلامية السليمة، العديد من المشكلات في المجتمعات المسلمة، وعلى رأسها قضية التطرف الفكري، والذي يقود إلى مشكلات عدة، على رأسها تعطيل المشروع الإسلامي الحضاري الصحوي، الذي يريد استعادة خيرية الأمة.

فنرى البعض يعبد الله تعالى، بمنطق عبدة الشيطان الرجيم، والعياذ بالله، فهم – هذه الفئة - يعبدوه لأنه قاسٍ لا يرحم، فيخشونه، والعياذ بالله، وبينما هو يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء؛ تجده يصور لهم ذلك في صورة زخرف وبهرج الدنيا؛ لغوايتهم؛ فيتبعونه.

" البعض لا يعرف ربه حقَّ المعرفة، فيصورون لك الله عز وجل، وكأن كل ما يريد هو تعذيب الناس، فلا يعلمون حقيقة رب العزة سبحانه، من أنه ربٌّ رحيم؛ اختار لنفسه ما شاء من الأسماء الحسنى"

البعض لا يعرف ربه حقَّ المعرفة، فيصورون لك الله عز وجل، وكأن كل ما يريد هو تعذيب الناس، فلا يعلمون حقيقة رب العزة سبحانه، من أنه ربٌّ رحيم؛ اختار لنفسه ما شاء من الأسماء الحسنى، بدأها بالرحمن الرحيم، ويقول سبحانه وتعالى عن نفسه: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)} [سُورة "النساء"].

هذا يختلف عن مبدأ {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سُورة "الأنبياء"-من الآية 90].. نعم يجب أن نعبد الله عز وجل رهبةً منه، ولكن كذلك يجب أن نعبده، رغبة فيه وفي عطائه ورحمته؛ لأ أن نصوره أنه دائمًا ربٌّ غاضب، كل ما يفعله هو أن يفتك بالعصاة لمجرد إثبات ربوبيته.

حقيقة الله عز وجل مختلفة عن ذلك تمامًا، فهو صبور على عباده، ينتظرهم ليتوب عليهم، ويغفر لهم، هو رحمن السماوات والأرض، والرحيم بالبشر، خلقنا لنذنب، خلقنا لنعصي؛ ليغفر لنا، وإلا كيف يكون الغفور الرحيم؟!

إن الله تعالى لم يفرض على الناس شيئًا ليس في مصلحتهم، بل إن شريعة الإسلام نزلت من لدن سميع عليم، في كتابه العزيز، وفسرتها السُّنَّة النبوية من أجل مصلحة العباد، ولو لم تتحقق المصلحة من وراء الحكم الشرعي؛ فإنه لا يجوز تطبيقه.

وفي القرآن الكريم، الكثير مما يؤكد ذلك، ومن بين الآيات التي تلخص هذا الذي نقول، الآية الآية (179) من سُورة "البقرة": {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والخامسة والأربعين من سُورة "المائدة"، يقول فيها الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

في الآية الأولى، آية "البقرة"، ذُكِر فيها الحد الشرعي للقصاص، والغاية منه أن يؤدي إلى الحفاظ على الحياة، أما لو أدى القصاص إلى المزيد من سفك الدماء وإزهاق الأرواح؛ كأن يقوم به أفراد وجماعات، ودون وجود سلطة تجمع الناس وتدير شوؤنهم، فإنه لا ينفَّذ إلى حين تحقيق هذا الشرط، بالرغم من أنه حكم الله، فهل هناك مراعاة للبشر وعوارضهم وحالهم، أكثر من ذلك؟.

الأية الثانية، آية "المائدة"، تبدأ بعبارة لا لبس فيها {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا...}، أي أن الحديث التالي؛ هو حكم إلهي لا راد له، وفريضة على المؤمنين، وهم في هذه الآية، المقصود بهم، بنو إسرائيل، وكان لم يزل فيه الإيمان قائمًا.

ولكننا نجد أن الله تعالى، برحمته، وبرغم أن من حقه المطلق، كربٍّ وإلهٍ واحدٍ لا شريك له، أن يُطاع في أوامره ونواهيه؛ إلا أنه عاد بعد أن فرض حكمه وحدده في القصاص، الذي هو فيه كذلك حق العباد، وهو لدى الله عز وجل لها الأولوية حتى على حقوقه هو سبحانه – يحاسب اللهُ تبارك وتعالى الإنسان على حقوق العباد قبل حقوقه هو سبحانه – نجده يدعو إلى التراحم بين البشر.

فهو يدعو إلى ما فيه إصلاح وشائج العلاقة بين المسلمين – المؤمنون من أهل الكتاب وكل من اتبع رسل الله عز وجل وأنبيائه كانوا مسلمين كما ورد في القرآن الكريم – لأن ذلك أدعى إلى تحقيق سنن الاستخلاف وإعمار الأرض؛ فقال تعالى: {..فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ...}.

هذا درس شديد الأهمية، فالله عز وجل لا يتورع عن التسامح في أحكامه، رحمةً بالعباد، ما دام في ذلك صالح الجماعة المؤمنة، وصالح المجتمع، كما أنه يدعو إلى أن يسود ذات المبدأ بين البشر، فلو كان التسامح في الحقوق والتغافر؛ سوف يؤدي إلى تحقيق سنن الخلق والاستخلاف؛ فهي أولى.

"إن الله لا يدعو إلى شيء فيه إفساد أو تدمير لأواصر المجتمعات المسلمة"

ولكنه يعود فيذكرنا بأنه الخالق، وبأنه المتصرف، وهو صاحب التشريع، ويحذرنا نفسه؛ فيقول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

هذا هو منطق الله عز وجل، القويم، الذي يعدل ولا يفرق ولا يميِّز، يصلح ولا يفسد، ولا يدعو – حاشا وسبحانه وتعالى عن ذلك – إلى شيء فيه إفساد أو تدمير لأواصر المجتمعات المسلمة.

إننا، في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا؛ حيث تجتاحنا جيوش الظلام، من جماعات إرهابية غامضة تشوه صورة الدين، وأنظمة استبداد تقتل وتشرد، وقوى كبرى تستعبد وتخرب، في هذه المرحلة؛ فإننا كمسلمين مدعوون لمعرفة طبيعة خالقنا عز وجل، والذي منح الإنسان حتى الرحمة والغفران، بعد مماته، إلى يوم الحشر.

لما أراد سبحانه أن يعرف ذاته لعباده من أمة محمد "صلَّى الله عليه وسلم"، قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [سُورة "البقرة"].

ويلخص الله تعالى الموقف في هذه الحياة الدنيا، وما للإنسان فيها، وما عليه، وميزان القسط والحساب، في الدنيا والآخري، في آيات عظيمات، موجهة للرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وبالتالي لعموم أمته "عليه الصَّلاة والسَّلام"، من سُورة "الأنعام".. يقول فيها الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (163) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (164) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (165)}.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

التدجين الناعم: كيف يُختطف وعي الأمة؟ (2-2)

تحدثنا - بفضل الله تعالى- في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:- توطئة عن الموضوع. …