يقول الله تعالى في سُورة "الإسراء": {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)}، وفي هذه الكلمات الوجيزة في عددها، العظيمة في قيمتها، يحدد رب العزة سبحانه، قانونًا مهمًّا من قوانينه في خلقه، وهو أن الجزاء من جنس العمل؛ حيث مَن ظَلَم في الدنيا، وضل؛ فإنه يأتي في الآخرة لكي يلقى الجزاء الوفاق.
ولكن؛ من هو الأعمى؟، وما هي أخلاقياته؟، وماذا يفعل؛ لكي يستحق هذا الخزي في الدنيا والآخرة، وأن ينزل فيه قرآنٌ يُتلى؟!
بدايةً، يقول المفسرون إن الآية راجعة إلى الدنيا، وفي تفسير البغوي، يقول: "مَن كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق؛ فهو في الآخرة أعمى، أي: أشد عمىً وأضل سبيلاً أي: أخطأ طريقًا".
وقيل إنه مَن كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار؛ فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار.
وقال الحسن البصري في تفسيره: "مَن كان في هذه الدنيا ضالاًّ كافرًا؛ فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً؛ لأنه في الدنيا تُقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته".
وقال ابن عباس لوفد من اليمن سأله عن معنى الآية: "مَن كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى؛ فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلاً".
وينحو القرطبي في تفسيره ذات النحو؛ فيقول إن المعنى مَن عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا، فهو عن نعم الآخرة أعمى، وهو من ضل عن حجج الله تعالى وأنكرها.
"مَن عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا، فهو عن نعم الآخرة أعمى"
والمعنى في قوله تعالى "فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى"، أنه سيكون أشد عمىً؛ لأن المقصود عمى القلب، وهو أشد وأنكى من عمى العين!
وفي الطبري وابن كثير ذات المعاني التي ذهبت إليها هذه الآراء والتفاسير؛ الكفر بالله، وتجاوز الإنسان لأنعمه عليه، بالرغم من حججه البادية الواضحة الظهور.
وهي –تجاوز الإنسان لأنعُم الله عليه- أحد ألوان الكُفر، كما حدد الفقهاء؛ حيث هو إما كفر ملَّة، أي عدم الإيمان بالله تعالى على الصورة التي أرادها عز وجل، أو كُفران أنعُم الله، من خلال الجحود بها.
وفي ذات السُّورة قولٌ آخر يحمل ذات المعنى القرآني، ويؤكد الرسالة من وراء الإشارة الربانية حول العمى بالمعنى الذي ورد في القرآن الكريم..يقول تعالى: {وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا(97)}.
هنا الضلال، الذي هو صنو الكفر، من سمات الإنسان الأعمى، ويزيد الله تعالى في عذابه وإذلاله، ولا يُبالي، بأن يحشره أعمى وأبكماً وأصماً، نكاية في كِبْره ونكرانه وجحوده في الدنيا.
وفي سورة "طه"، يقول رب العزة سبحانه في هذا المعنى كذلك: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)}.
هنا، في آيات سُورة "طه"، الأمر أكثر تفصيلاً، فهناك من بين معالم العمى في الآخرة، الإعراض عن ذكر الله تعالى، ونسيان آياته.
والإعراض فِعْلٌ عمديٌّ، أي أن الإنسان يقوم به وهو يقصده، وفي هذه الحالة؛ فهو قمة الجحود، فأنت تعرض عن ذكر الله تعالى عامدًا متعمدًا، بالرغم من كل ما هو أمامه من دلائل الإعجاز في الخلق، والتي تدل على وجود الخالق عز وجل.
والعمى درجات، ومن أبرز مسبباته، كما في القرآن الكريم، الضلال. والضلال هو التيه عن الحقيقة.
وفي العقيدة، فإن الضلال هو التيه عن حقيقة الخالق الواحد الأحد، والاعتراف به، كما أراد من البشر.
وما دون ذلك؛ فهو درجات، فهناك من بين درجات العمى والضلال؛ ألا نرى في هذه الدنيا سوى السواد والسلبيات وكل أدران النفوس البشرية المريضة التي لم تسمح بأن يجلُ القرآن الكريم عنها كل هذه الأقذار!
والجحود كذلك، صنو الكِبْر والغرور والاستعلاء؛ من أهم صفات العمي في الدنيا والآخرة، وهي من أهم أمراض النفس البشرية، والتي تقود الإنسان المصاب بها، إلى الكفر والعياذ بالله.
فعن أبي هريرة "رَضِيَ اللهُ عنه"، قال: قال رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": "قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار"، ورُوي كذلك بألفاظ مختلفة منها "عذبته" و"وقصمته"، و"ألقيته في جهنم"، و"أدخلته جهنم"، و"ألقيته في النار"، [أخرجه مسلم في الصحيح، وأحمد وأبو داود وآخرون].
"قد يمدد الله تعالى للجاحدين والمتكبرين والضالين في ضلالهم؛ لما يجد منهم كل هذا النكران"
وينهى هذا الحديث القدسي عن الكِبْر والاستعلاء؛ فالعظمة والكبرياء صفتان لله سبحانه؛ اختص بهما، فلا يجوز أن يشاركه فيهما أحد، أو ينازعه فيها أحد من خلقه، ومن ثَمَّ؛ فإن صاحب هذا الخُلُق المذموم، ينازع الله تبارك وتعالى، في ربوبيته وألوهيته، وهو الذي يقول عن نفسه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)} [سُورة المُلك].
وتشير الآية السابعة والتسعون من سورة "الإسراء" إلى أمر يجب الحذر منه، وهو أن الله تعالى قد يمدد للجاحدين والمتكبرين والضالين في ضلالهم؛ لما يجد منهم كل هذا النكران {وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ}.
ويؤيد ذلك القرآن الكريم في مواضع أخرى، منها الآية الخامسة عشرة من سورة "البقرة"؛ حيث يقول الله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، أي يعمون، وهم المنافقون.. {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ(14)}.
وهي شيمة أخرى من شيم العميان في الدنيا والآخرة، وهي خصلة النفاق، الذين أصحابها هم في الدرك الأسفل من النار.. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)} [سُورة "النساء"].
ويطول الحديث عن النفاق والجحود والكِبْر.. هذا هو الأعمى في الدنيا والآخرة؛ مَن هو، وما هو فعله من واقع ما جاء في القرآن الكريم، وصحيح السنة النبوية الشريفة، ويحذركم الله نفسه!