جعل الله عز وجل لطاعته مواسم ونفحات يضاعف فيها الأجر والثواب وألزمنا التعرض لها، ومن هذه المواسم شهر رمضان فيدعو المؤمن ربه ليفوز بخيره، ففيه تزداد الطاعة فيلهج بلسانه اللهم بلغنا رمضان كما يلهج القريب أن يجتمع بقريبه والحبيب بحبيبه بعد فراق طال أو قصر ويتمنى أن يستمر حينما به، وهكذا في رمضان عندما يبلغه إياه يتمنى أن تكون السنة كلها رمضان وذلك للخير والبركة التي رآها فيه برغم أن هناك خيراً فيه لم يعلمه المسلم مغيب عنه.
إن الصيام ليس إلا خارطة جديدة توجه طريقنا، ومعالم صحيحة تبلِّغنا أهدافنا وتحقق غاياتنا النبيلة، وبوصلة تحدد لنا الاتجاه الذي يقود مراكبنا، ويوفر لنا الأمن في رحلة طويلة عبر محيطات، نشق خلالها دروب وشوارع الحياة، في جولة حول عالم فسيح، شاسع الأطراف، نحمل خلالها حقائبنا وأمتعتنا المشحونة بأوراق تلهث أمام جوع الصيام وعطشه، أوراقا تنتظر ساعات طويلة من يخرجها من عتمة الجهل، فتبصر نور الحق يحييها، ومن يمسح الحبر الأسود القاتم الذي دون معاصيها.
" من تحمَّل منا شدَّة الصبر على معاناة الحرمان ساعات وأياماً وشهراً كاملاً فهو قادرٌ على أن يتحمَّل قسوة الكفاح والنِّضال ساعات عمره النَّفيسة"
وما الصيام إلاّ حياة جديدة، نتعلَّم خلالها كيف نواجه الهزيمة؟، وكيف نقاوم ونكافح ونناضل فلا نستسلم للفشل؟، وكيف نحافظ على قوَّتنا فلا نضعف ولا ننكسر: فمن تحمَّل منا شدَّة الصبر على معاناة الحرمان ساعات وأياماً وشهراً كاملاً فهو قادرٌ على أن يتحمَّل قسوة الكفاح والنِّضال ساعات عمره النَّفيسة.
فرمضان يعطيك فرصة لبناء حياة جديدة تبدل فيها السيئات إلى حسنات وتصنع فيها عادات جديدة تتخلى عن الضار المفسد وتأخذ بالنافع المفيد، نعم إنه خارطة للتجديد في كل شيء، تجديد في الماضي السيئ، تجديد لهمة الإنسان في عبادته، تجديد لطريقة تعامله مع الناس، وفيه فرصة عظيمة للتغيير والتزكية، وموسم مهم للانطلاقة نحو الإصلاح والتربية ومن لم يتغير في رمضان فلن يتغير في غيره إلا أن يتغمده الله برحمته ومن لم يغير في رمضان فمتى يغير؟
معالم على خارطة الطريق:
إن من أبرز المحفزات الداخلية والخارجية التي تعطيك القوة والجرأة في رسم خارطة جديدة في هذا الشهر المبارك:
أولاً : استشعار عظمة هذا الشهر المبارك، وهو الشهر الذي اختصه الله لنفسه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).
ثانيا: وجود المحفزات اللازمة والمشجعة لعملية التغيير، ففي أحيان كثيرة يحتاج المرء إلى من يأخذ بيده ويتغير معه.. وفي رمضان تتوفر هذه الميزة بنجاح؛ فالكون كله يتغير في رمضان وليس المسلمون من البشر فقط؛ فأبواب الجنة تفتح في رمضان.. وأبواب النيران تغلق.. وتفتح أبواب السماء.. والنفس مقبلة على العبادة (إما راغبة أو مرغمة)، بل حتى إن الله يغير الأجور ويضاعفها لعباده في رمضان، ومن أمثلة ذلك العمرة في رمضان التي تساوي حجة مع النبي.
ثالثا: في رمضان تنتظم عقارب الساعة، وينتظم وقتك انتظامًا دقيقًا ومما لا شك فيه أن ذلك محفز لمن يريد أن يبدأ مسيرة التغيير. فمن شروط التغيير المهمة الالتزام بالوقت.. فمن المهم أن تلزم نفسك في كل عمل تؤديه بوقت تبدأ فيه ووقت تنهيه.
رابعاً : السلوك الإيجابي الجماعي من خلال التزام المسلمين بحفظ ألسنتهم وجوارحهم مما يحفز على روح الألفة والمحبة ويساعد على التغيير.
خامسا: التغيير يحتاج للتكرار، والمختصون يقولون: إن الإنسان يحتاج من 6 إلى 21 يومًا ليعتاد على سلوك جديد، فما بالك والعادات الجديدة في رمضان نكررها من 29 إلى 30 يومًا فلتجعل عاداتك الجيدة التي تريد أن تسير عليها من ضمن برنامجك اليومي في رمضان.
معادلة التغيير الإيجابي
إن التغيير الإيجابي ينطلق من معادلة بسيطة ترتكز على ثلاثة أمور:
- مراجعة الواقع الذاتي والشخصي وتقييمه.
- وضع خطة واضحة للتغيير.
- المحاسبة المستمرة.
وهذه الأركان الثلاثة تجدها مهيئة لك في شهر رمضان المبارك لذا لا ما عليك سوى أن تعقد العزم وتأخذ بفرشاتك المصبوغة بالهمة والعزم لترسم خريطة جديدة تجدد فيها العهد مع الله ليكون هدفك الجنة وأسمى أمانيك رضى الله تعالى عنك.
وكمايقول الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي: (رمضان ما هو إلا فترة راحة وهدوء، يعبُر المؤمن من خلالها إلى مراقي الصعود في درجات الإيمان، فمن استفاد من هذه الفترة في إصلاح حاله وتجديد إيمانه ومراجعة نفسه، فقد وجد للتغيير طريقًا).