للتو لقد خرج من غرفتي، عرفته، شعرت به، طاف حولي وأخذ ما أراد ثم مضى، وسيعود،
متى؟؟
لا أعرف!!
ربما عندما تسقط آخر ورقة من أوراق ربيع عمري، إنه الموت، دخل إلى الغرفة سريعاً متسللاً، وكأنه يخاف أن يراه أحد، اقترب من السرير المقابل لي، لم يعبأ بكل الأسلاك التي تمددت على ذلك الجسد النحيل، أخذ حياته وانطلق، لتعلن تلك الأسلاك أن المشوار قد انتهى، مع أنه لم يبدأ بعد، شاب في الثانية والعشرين من العمر يقضي على سرير الموت.
في كل مرة كنت آتي إلى هذا المشفى كان يخيل لي أن ملك الموت قد تربع فوق المشفى، وبيده يأخذ الحيوات، حياة تلو حياة، يقطف زهرة تلو زهرة، لم يكن يهتم بالعمر، فطفل في السنتين كشيخ في الستين، كلهم سيمضون، حتى أنه في يوم من الأيام "حصد" أرواح عشرة منهم، عشرة دفعة واحدة، أحدهم لم يتحمل ألم المرض فألقى بنفسه من غرفته في الطابق الخامس إلى الأرض.
أنا اليوم أكملت عامي الأول وبعض أسابيع مع هذا المرض، رأيت خلالها الكثير من الناس الذين ابتلاهم الله بمثل هذا المرض، رأيت عيون الناس تتجه إلي بشيء من الحزن أو ربما الشفقة، كم كنت أكره هذا الشعور، أن ترى من يشفق عليك فيعاملك وكأنك طفل صغير، حتى عندما كنتُ أغضب، ولا أعلم لماذا كنت أغضب، ربما لأنني مريض أو ربما لأنني أنتظر الموت، ولعله هو الذي ينتظرني، حتى عندها أي عندما أغضب تراهم يهدئونك كطفل صغير غير معاتب بأقواله ولا أفعاله، هذا هو الشعور الأسوأ على الإطلاق.
في المشفى كنت أراهم أشباحاً وخيالات، أجساداً بلا أرواح، وكأنك ترى مجموعة من الأموات يتحركون ببطء، وما أن يلبثوا حتى يعودوا إلى قبورهم.
قبل كل جلسة، كنت أسمع أصوات أهلي في البيت يتناجون من منهم سيصحبني في اليوم التالي لأخذ الجرعة، في البداية كانوا يتسابقون شفقة منهم وتضامنا معي، وبعد حين صرت كأني همٌّ أثقلَهم، أو ربما كانوا يتوقعون مني أن أستسلم للموت عما قريب.
وحدها أمي كانت تشعر معي، كانت تشاطرني ألمي، كانت تحزن لأجلي، لم تكن تشفق علي، بل كانت جزءاً مني ومن علاجي، عندما كانت ترافقني كنت أفرح وأحزن، أفرح لأنها الوحيد الذي يشعر بي ومعي، وكنت أحزن عندما أرى دموعها تنهمر على وجنتيها عندما تراهم يدكّون جرعاتهم بجسدي النحيل، وما كان قبل ذلك نحيلاً.
في هذا المرض تعلمت الكثير الكثير، رأيت من الأصدقاء من بقي على تواصل معي طوال تلك السنة البئيسة، ورأيت من اعتبرني متّ وكنت نسيا منسياً.
في هذا المرض شعرت بدفق إيماني يسري في عروقي، شعرت بأن الله معي ثم أمي، فقط شعرت بهما، يدٌ من السماء ويد من الأرض، الأولى تحرسني والثانية تشجعني، شعرت بالله حقيقة لا أوهاماً، شعرت بقرب الله، وشعرت بمعيته، وشعرت به يكلمني ويلهمني، رأيت الابتلاء وعرفت معناه، وعرفت إن أنا حمدته خفف عني آلامي، كنت أشعر بذلك حقيقة لا خيالاً، كنت أشعر به يتبسم وهو ينظر إليّ، وكأنه يباهي بي الملائكة، انظروا إلى عبدي الصابر، حتى أنني في كل جلسة كنت أهمس له، يا رب: أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
في هذا المرض رأيت من هم أعظم بلاء مني، رأيت من كان مرضه أخطر، ورأيت الشيخ الطاعن في السن الذي قد ذهب عقله وخارت قواه، ليأتوا به على عربة متحركة ليأخذ جرعته، ويسمع كل الناس صوت صراخه حين يدخل، وتراه كقطعة قماش بالية عندما يخرجون به وكأنك تقول بأنه لن يعود هنا مرة أخرى، وبالفعل فقد قضى يوم قضى في المشفى وقبل أن تمتد إليه الأيادي.
جرعة العلاج كانت ناراً يدخل على جسدك، تشعر بكل خلية في جسمك تحترق، النار تسري في جسدك، في كل مرة، وتشعر بإعياء شديد بعدها، تتمنى أن تنام وربما أحياناً تتمنى أن تموت.
في كل صباح كانت خصلات الشعر تتساقط خصلة تلو خصلة، شعر الرأس والحاجبين وحتى رموش العين، وما هي إلا أسابيع حتى سقط شعري بأكمله.
اليوم أنا جالس بباب المشفى أنظر إليه وأتأمله، وأتذكر ما حصل معي خلال العام الماضي، بكل مشاعره وبكل آلامه، وبكل لحظة صعبة فيه، أتذكر صبري وشكري وأذكر كيف أنني تحديت ذلك المرض، أذكر دموع أمي، واهتمام إخوتي الصغار بي، أذكر تلك الهدية من صديقي والتي كتب لي فيها عبارات بثت في روحي الأمل، لا زلت أذكر تلك الآية جيداً والتي كتبها صديقي على هديته: {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.
نعم.. أنا لم أيأس وصبرت وشكرت وتحملت وكنت أشجع نفسي وأحفزها، فلعلي إن مت أن أموت وأنا واقف صامد لم أخضع ولم أهزم أمام هذا المرض، أن أموت صابراً محتسباً.
ولكن أيقنت اليوم أن الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، أنا اليوم بباب المشفى أكتب كلماتي هذه وقد أخذت نتائج فحوصاتي قبل قليل حيث بشرني الطبيب بأن الله قد شفاني، وأنني اليوم صحيح معافى بفضل الله تعالى أولاً ومن ثم بقوتي واحتسابي، سأختم كلماتي هذه هنا لأذهب وأبشر من ينتظرني.. أمي.