روح الحضارة والعمران .. رسائل قرآنية واجبة القراءة!

الرئيسية » بصائر الفكر » روح الحضارة والعمران .. رسائل قرآنية واجبة القراءة!
الحضارة39

كثيرًا ما تُنسَب المشكلات الراهنة التي تمر بها الأمة المسلمة إلى الدين، وذلك في إطار مخطط متكامل لفصل المسلمين عن دينهم وحضارتهم.

ومن نافلة القول في هذا الموضع، التأكيد على أن هذا المخطط، والذي يتخذ أشكالاً إعلامية ومجتمعية عدة، على تحقيق أكثر من هدف، الأول هو ضمان استمرار الأمة في حالة التخلف والتراجع الحضاري التي هي عليها في الوقت الراهن.

الهدف الثاني، وهو مرتبط بالأول، استكمال مخطط "تغريب العالم"، وسحب الحضارات الأخرى –والمسلمون ليسوا استثناءً– إلى بوتقة الحضارة الغربية بمنظومتها المادية، القائمة على قيم الليبرالية والعلمانية، والأسس القيمية للمسيحية واليهودية كما تم تحريفهما.

ويتم في إطار هذا المخطط، التأسيس لصورة ذهنية سلبية حول ما يمكن أن يفعله الإسلام بالعالم إذا ما حكم وتم التمكين له، وتشمل هذه الصورة الذهنية مجموعة من الجوانب التي تدور كلها حول مصطلحَيْ "التوحُّش" و"التخلف"، وكيف أن التمسك بأهداب الدين؛ قاد الأمة الإسلامية إلى وضعية التراجع الحضاري التي هي عليه.

هنا تبدو أهمية الدراسات العمرانية الإسلامية المذهب والهوية، والتي تركز على أمرَيْن أو جانبَيْن أساسيَّيْن، الأول هو إبراز أثر الإسلام في نهضة دولة الخلافة الإسلامية، التي سادت العالم حضاريًّا وسياسيًّا، وكانت أكبر قوة اقتصادية وعسكرية –وهي عناصر قوة الدولة الأساسية وفق العلوم السياسية الحديثة– في العالم، ولمدة ألف عام.

"الإسلام قوة بناء، وأداة حضارة، وأن الإسلام –متى تم تطبيقه على النحو الصحيح– يملك كل النقاط الإيجابية والعملية اللازمة لبناء حضارة مستمرة و متكاملة الأركان"

وأهمية ذلك تكمن في أنها تبرز أن الإسلام قوة بناء، وأداة حضارة، وأن الإسلام –متى تم تطبيقه على النحو الصحيح– يملك كل النقاط الإيجابية والعملية اللازمة لبناء حضارة متكاملة الأركان، ومستمرة، وأن التخلي عن قواعده العمرانية، هو أول العوامل التي تقود إلى تطبيق قوانين دوال الأمم والحضارات التي وضعها الله عز وجل في خلقه.

الجانب الآخر، وهو مرتبط بما سبقه، يتعلق بضرورة إبراز الطابع المدني والعقلي في الإسلام، وفي مختلف ما سبقه من رسالات أنزلها الله تعالى على من اصطفى من عباده؛ لأن هذه الأمور، هي التي تُعتبر أساس أي بناء حضاري.

ويقول وول ديورانت في موسوعته الشهيرة عن الحضارة، أنها "أي نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي"، وتتكون الحضارة من أربعة أركان، وهي الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد والأخلاقيات الحاكمة، والعلوم والفنون، وتتميز بالتراكم مثلها مثل الفعل الثقافي.

والحضارة، وفق ديورانت، تبدأ من حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع الطموح، وتحركت لديه عوامل الإبداع والعمران، مما يقود إلى المزيد من الفهم للحياة وازدهارها.

واختيارنا لتعريفات ديورانت هذه له قصد، وهو أن نورد المفاهيم الغربية الأساسية عن الحضارة وأركانها، لأن عثورنا عليها في القرآن الكريم، وفي سنن الأمم الأولى، والتي شهدت نزول كتب ورسالات فيها؛ يثبت بما لا يدع مجالاً للشك، في أن الإسلام أتى بقواعد العمران البشري التي تضمن قيام حضارة راسخة، تسود العالم بقيم العدل والمساواة والحرية.

كما يثبت سبق الإسلام لذلك؛ حيث الدراسات الحضارية وعلوم الاجتماع السياسي والإنساني، إنما نشأت في الغرب بعد بدء عصر النهضة، في القرون الوسطى، أي بدءًا من القرنَيْن الرابع عشر والخامس الميلاديَيْن، بينما الإسلام نزل على الرسول الكريم محمد "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، في القرن السابع الميلادي.

فالقرآن الكريم، وفي سير الأنبياء والمرسلين الذين سبقوا النبي الخاتم، "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، يقدم مختلف أركان عملية البناء الحضاري.

فوول ديورانت يتكلم عن أن الحضارة تبدأ عندما ينتهي الخوف والقلق، ويبدأ الأمن، وفي القرآن الكريم، يقول رب العزة سبحانه في ذلك، مخاطبًا قريشًا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُون(67)} [سُورة "العنكبوت"]، وفي سُورة "قريش": {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف(4)}

هنا القرآن الكريم يؤكد على أن الأساس الحضاري الذي نهضت منه قريش، وسادت به العرب، إنما هو الحرم والأمن ورغد العيش، وهي الأسس الأولية المتينة التي تناولها ديورانت ودوركايم وروسو، وغيرهم من علماء الاجتماع وفلاسفة العمران في الغرب، وإن مال روسو إلى مخالفتهم في أهمية عامل الأمن؛ حيث قال بأن الحرية والديمقراطية مقدمتان على عامل الأمن، ولكنه لم يختلف على مكانته لدى الأمم والشعوب، وإنما كان يدعو إلى تقديم الحرية على الإحساس بالأمن.

والعمران صنو الحضارة، وكلاهما ضد الفساد والإفساد، وفي القرآن الكريم الأمر واضح: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [سُورة "القصص" – من الآية 77]

وفي العالم العربي والإسلامي، ثَمَّة تجربة تكاد تقترب من أهمية تجربة ابن خلدون، ولكنها لم تلقَ الاهتمام الكافي من جانب علماء الاجتماع والعمران المحدثين، لدراسة ما في أدبياتها من مفردات حول قضية الدين والحضارة، وهي تجربة العلامة المصري رفاعة رافع الطهطاوي.

ولو طالعنا كتب الطهطاوي، وخصوصًا "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، و"المرشد الأمين"، و"مناهج الألباب"، سوف نجد طهطاوي إسلاميًّا بامتياز، فهو يدعو إلى تطبيق الشريعة، ويؤكد على أن القرآن الكريم أساس الدين، ويجب تطبيق أحكامه، وتقنين الشريعة الإسلامية.

ومن بين ما يؤكده الطهطاوي في عمرانياته، ويقدم مكونًا إسلاميًّا خالصًا لعملية البناء الحضاري، ضرورة انضباط العقل بالوحي. ومن ذلك أيضًا، أن التمكُّن من القرآن الكريم، ومن السُّنَّة النبوية الشريفة، شرط لدراسة الفلسفة، حتى لا تخرج ولا تشط عن المألوف والصحيح من الأمور.

وفي هذا يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن الميداني الدمشقي، في كتابه المهم "الحضارة الإسلامية.. أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم" الصادر عن "دار القلم" بدمشق، عن السبل الكفيلة بتحقيق التقدم والرقي الحضاريَّيْن، من خلال المنهج الإسلامي، ما ينزل به الوحي، وما يتوصل إليه العقل بالبحث العلمي، ثم ما يكتسبه الإنسان عن طريق الاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية مع الملاحظة الدقيقة لجوانب الخطأ والنقص، وما يستدعيه الكمال، وهو مرتبط بالممارسة العلمية كذلك.

ولو تركنا الطهطاوي وعمرانياته، والميداني وعقلياته، وذهبنا إلى ما قاله البحاثة حمزة حسن سليمان صالح، في دراسته المهمة "أسس الحضارة الإنسانية في القرآن الكريم"؛ سوف نجد الكثير من الدلالات القرآنية والتاريخية التي تؤكد على أن الإسلام بذاته، هو الذي أقام حضارة المسلمين.

فيقول إن "الناظر إلى بداية نشوء الحضارة الإسلامية لا يجد فيها أي تأثر أو أي ارتباط بالحضارات السابقة أو المعاصرة لها، لا تأثُّرًا إيجابيًّا ولا تأثُّرًا سلبيًّا؛ ذلك لأن الإسلام أوجد نمطًا من العيش مختلفًا كل الاختلاف عن كل أنماط العيش السابقة له والمعاصرة، وأحدث انقلابًا جذريًّا في المجتمع بحيث لم يترك ناحية من نواحيه إلا وطالها وأحدث فيها التغيير من أساسها".

وكما أسلفنا؛ فإن القرآن الكريم، به الكثير من الآيات التي إذا ما تدبرناها؛ سوف نجدها تتناول عوامل نهوض وأسباب استمرار الحضارات.

ونأخذ فقط ما يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، لأنها قضية مهمة تشغل بال الكثيرين ممن لا يعلمون حقيقة هذا الدين، وما الحال لو تم التمكين له، وهي أسئلة ظهرت وتكاثرت مع صعود الإسلاميين إلى الحكم في بعض بلدان الربيع العربي.

ولننظر فقط إلى قضية الحق وأهميتها في الحكم والبناء العمراني، والاجتماعي والسياسي السليم، والتي هي في مقام عملية الحكم، صنو قضية العدالة، وكلاهما، الحق والعدل من الأسماء الحسنى التي اختارها الله عز وجل لنفسه!

" الإسلام هو المعادل الإيجابي للتقدم البشري، وفي المقابل، فهو المعادل السلبي لكل ما هو يتعلق بالتخلف والرجعية والخراب الذي ينادي به الآن خصوم الأمة"

فنظام الحكم في الإسلام يقوم على الحق والعدل، وهي الأسس الركينة لاستمرار المجتمعات والحضارات، ومن دونها تسود الفوضى، وفي القرآن الكريم، أبرز رب العزة الإسلام هذه القاعدة كأساس للعلاقة بين الحاكم والمحكومين، محذرًا القائمين على شؤون الحكم من اتباع الهوى؛ فتسقط الدولة في مهاوي الظلم، وبالتالي تنهار وتذهب ريحها.

ومن بين ما ورد في القرآن الكريم في ذلك قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [سُورة "ص" – من الآية 26]، ويقول كذلك: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سُورة "المائدة" – من الآية 49].

وفي الأخير؛ فإن التاريخ يخبرنا أن الإسلام أقام - وحده – حضارة العرب والمسلمين، كما كان هو الركيزة الأساسية لقيام حضارات أخرى، على رأسها الحضارة الغربية، وهو ما اعترف به حتى غلاة الفلاسفة الغربيين، مثل جوستاف لوبون، والمنصفين منهم، مثل جورج سارتون، الذي قال في كتابه "مقدمة في تاريخ العلم": "إن الجانب الأكبر من مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون؛ فالفارابي أعظم الفلاسفة، والمسعودي أعظم الجغرافيين، والطبري أعظم المؤرخين".

ولكن لم يكن ذلك أن يتم لولا أن كانت البداية بالتربية النبوية الأخلاقية، وبناء الفرد في المرحلة المَكيَّة من البعثة، ثم بناء الدولة والمجتمع في المرحلة المدنية من بعثة رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم".

إذًا؛ فالإسلام هو صنو العمران، والمعادل الإيجابي للتقدم البشري، وفي المقابل، فهو المعادل السلبي لكل ما هو يتعلق بالتخلف والرجعية والخراب الذي ينادي به الآن خصوم الأمة!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …