تفوح في كل رمضان رائحة تلك الذكريات العظيمة التي رسمت تاريخ المسلمين وصنعت أمجادهم وعزهم، ففي رمضان كانت غزوة بدر، وفتح مكة، مروراً بعين جالوت وفتح الأندلس وغيرها من الأحداث العظيمة، التي لن ينساها التاريخ ولن يمر عليها مرور الكرام لأهميتها.
لكن ما أريد أن أسلط الضوء عليه، وأكشف اللثام عنه، هو لماذا تميّز رمضان بقائمة طويلة من المعارك والفتوحات، ولماذا كانت أغلب معاركه تنتهي بالظفر والانتصار.
والحقيقة أن لرمضان تأثير عجيب على النفس المؤمنة، وصقلها وإعادة ضبطها وفق ما أراد الباري عز وجل.
فرمضان هو شهر الانتصار على النفس، قبل أن يكون انتصاراً على العدو، ففيه تتعلم النفس مجاهدة ما تحب وتتعلق به، وهو يعيد تعريف علاقة الإنسان مع المحيط الخاص به. كالعلاقة مع الشهوات والملذات، ومجاهدة الهوى والتعلق بالأشياء، وبيان أهمية الالتزام بأوامر الله وعبادته، وتقديمها على ما سواها من الأمور الدنيوية. فتجد المرء يترك طعامه وشرابه وشهوته امتثالاً لأمر الله عز وجل، رغم شدة الحر، وطول ساعات الصيام، وكثرة الملهيات والمغريات.
كما يتعلم فيه الإنسان كيفية ضبط جوارحه في تعامله مع الناس، فيما يعتبر ثورة أخلاقية، تعيد بوصلته نحو ما يريده الشارع ويسعى لتحقيقه في النفوس والمجتمعات. وفي الحديث القدسي عن الله عز وجل: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم" (متفق عليه).
" إن الصوم كغيره من العبادات، يهدف إلى إجراء تغيير داخل الأمة وأفرادها، بتحقيق العبودية لله، وجعل المجتمع على أتم الجاهزية للثبات على الحق والسير على خطاه نحو النصر والتمكين"
إن رمضان يعتبر فرقاناً في حياة النفوس والمجتمعات التي تتمتع بالإيمان وتسعى لنيل رضا الرحمن، كيف لا وهو شهر تتجدد فيه الصلة بين المؤمنين والقرآن الكريم، مع ما ينتج عنها من التدبر والتأثر وزيادة الإيمان. وكيف لا يترك في النفس أثراً يدفعها إلى فعل كل ما يأمره الله ويحبه، حتى لو كان بالتضحية والجهاد في سبيله؛ لأن النصر منه عز وجل، ومعية الله وتأييده أقوى من كل شيء. يقول الله تعالى: {وما النصر إلا من عند الله} [الأنفال:10] ويقول: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم} [آل عمران:160].
إن الصوم كغيره من العبادات، يهدف إلى إجراء تغيير جذري داخل الأمة وأفرادها، بتحقيق العبودية لله، وجعل المجتمع على أتم الجاهزية للثبات على الحق والسير على خطاه نحو النصر والتمكين. ولا غرابة أن نجد هذا الأمر جلياً في سورة البقرة.
فالآيات الكريمة من 183 -187 قد تطرقت لموضوع الصيام وما يتعلق به من الأحكام، لكنها بينت أهمية ذلك في صلاح المجتمع وتطهيره، فختمت بكلمات: "يتقون" و"تشكرون" و"يرشدون". ثم تبعها آيتان تتعلقان بالحج، قبل أن يكون الحديث عن الجهاد والقتال. مما يعني أهمية العبادة، وتحقيق غاياتها في الثبات والانتصار على العدو.
لذا فالأمة الراشدة التي تستغل رمضان خير استغلال، هي أمة تسير بخطى ثابتة نحو ما يريده مولاها عز وجل، وتحقيق ما يطلبه منها، الاستخلاف في الأرض، وحمل لواء الدين وتمكينه في الأرض.
وقفات..
"إن الله قدّر أن يشهد رمضان أول مواجهة عسكرية ضد الكفر وأهله، في غزوة بدر والتي سميت بالفرقان، للتأكيد على أن لا انفصام بين العبادة والجهاد، وطلب النصر والعزة"
وفي هذا الصدد لابد أن أشير إلى أن بعض المعارك التي حدثت في رمضان، لم يحدد المسلمون وقتها، وإنما حددتها الظروف والأحداث المتعلقة بها. ولكن لا بد أن ننظر إلى كيفية تعامل المسلمين مع هذه المعارك، وكيف كانت شجاعتهم وبسالتهم.
فهم لم يتوانوا ولم يستكينوا أو يضعفوا، بل ثبتوا واستبسلوا، وقدموا للعالم أروع صور التضحية والبطولة، وما هذا إلا نتيجة ما وقر في قلوبهم من الإيمان، وما تركه رمضان والصيام من أثر في نفوسهم.
إن الله قدّر أن يشهد رمضان أول مواجهة عسكرية ضد الكفر وأهله، في غزوة بدر والتي سميت بالفرقان، للتأكيد على أن لا انفصام بين العبادة والجهاد، وطلب النصر والعزة، وليس معنى هذا أن لا تكون معارك المسلمين إلا في رمضان، ولكن أن نجعل من رمضان طريقاً –كما أشرت- يقودنا نحو الثبات والنصر والحرية.
إننا في رمضاننا هذا نستذكر تلك الملحمة البطولية، معركة العصف المأكول، وما حملته خلال أيامها العديدة من صور رائعة سطرها أبناء المقاومة في فلسطين، وما كان ذلك إلا بنصر الله ومعيته، ثم بتأثر أولئك الأبطال بالعبادة وزيادة إيمانهم ويقينهم وتوكلهم على الله.
إن تلك المعركة البطولية، لم يخطط أبطال غزة أن تكون في رمضان، لكنهم حين تعرّضوا للعدوان، قدّموا كل ما يملكون في سبيل دحره والثبات في مواجهته، وإلحاق الهزيمة به، وهو ما تحقق لهم في نهاية الأمر. رغم كل ما تعرضوا له من خسائر في الأرواح والممتلكات، لكنها الإرادة التي تصنعها العبادة وتغذيها في النفوس وترسّخها التربية الإيمانية الحقيقية الواعية، فتجعل من أصحابها أبطالاً لا ينحنون للباطل أو يستسلموا له.