أتى القرآن الكريم؛ ليكون أهم علامات أمام الإنسان لكي يهتدي في الحياة الدنيا إلى سبيل الرشد والرجاء، وليكون المرجعية الأساسية للمسلم في فهم الكون من حوله، وكيفية التعامل معه ومع الأمور التي تُعرض عليه في كل لحظة من لحظاته في حياته الدنيا، وحتى بعد مماته؛ مما ينتظره من سؤال وحساب، ومن قبل ذلك في الدنيا، ما يمر به من قضاء وقدر.
والقرآن الكريم في هذا الإطار، يحتوي على العديد من صور المحتوى المختلفة؛ فهناك السرديات التاريخية وقصص الأولين، وهناك الإيمانيات، وهناك العمرانيات، إلا أنه لعل أهم ما في القرآن الكريم، هو الخطاب الموجَّه، ما بين أهل الإيمان وأهل الكفر؛ سواء أهل الكفر من المارقين وصناديد الشِّرك والصد عن سبيل الله، أو أهل المجتمعات التي نزل القرآن الكريم لهدايتها بخطابه، أي المجتمعات التي تتم فيها الدعوة إلى الله عز وجل ودينه الخاتم.
فهذا الخطاب يتضمن أهم الأمور التي يجب على البشرية برمتها، إدراكُها، مثل دلائل وجود الله عز وجل، ودلائل التوحيد، والرسالة التي خُلق الإنسان لأجلها، ولأجلها أُنزِل إلى الأرض، وغير ذلك من عظيم الأمور مما تاه في زحام المادية والعلمانية التي غزت كل أركان مجتمعاتنا المسلمة في الوقت الحاضر.
ويختلف الخطاب القرآني الموجه إلى كل فئة من هذه الفئات الثلاث؛ المؤمنين، وصناديد الكفر والشِّرك وأهل الجحود، ثم مَن هُم من غير أهل الإيمان، في المجتمعات المستهدفة بالدعوة إلى الدين الحنيف.
والتأمل في الآيات القرآنية، والتي تتضمن خطابًا موجَّهًا إلى الفئتَيْن الأخيرتَيْن، سواء خلال سنوات البعثة الخاتمة، أو أقوام أنبياء الله تعالى ورسله السابقين على محمد "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"؛ سوف نجد أن رب العزة سبحانه يخاطبهم، في خطاب الترغيب على وجه الخصوص، بما ينحصر في الأمور التي تتعلق بحاجات الإنسان القريبة، وهي الحاجة إلى الأمن، وما يحقق الحاجات الفسيولوجية القريبة، مثل الرزق المادي.
ولذلك دلالة مهمة إذا ما قارناه بخطاب أهل الإيمان في القرآن الكريم؛ حيث – كما سوف نرى – ينطلق الخطاب القرآني لأهل الإيمان، من معالي الأمور، وعلى رأسها نشر دعوة الإسلام، والجهاد في سبيل الله تعالى، بكل صور وألوان ومعاني الجهاد.
"إنسانية الإنسان لا تكتمل إلا بالوصول إلى مرتبة الإيمان، فهو عندما لا يكون مؤمنًا؛ فإن الله يخاطبه بما يتساوى فيه مع المخلوقات الأدنى"
هذا الفارق الذي يتضح في الآيات القرآنية التالية؛ يؤشر لحقيقة مهمة، وهي أن إنسانية الإنسان لا تكتمل إلا بالوصول إلى مرتبة الإيمان، فهو عندما لا يكون مؤمنًا؛ فإن الله عز وجل يخاطبه بما يتساوى فيه مع المخلوقات الأدنى، مثل بهيمة الأنعام، الطعام والأمن وما اتصل بذلك.
ويتضح ذلك في الحوار الشهير بين الله عز وجل، وبين الخليل إبراهيم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، في سُورة "البقرة"، فيقول تبارك وتعالى في مُحكَم التنزيل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}.
هنا معالي الأمور، وهي إمامة الناس، والإمامة هنا عند أهل التفسير؛ هي الدعوة والنبوة، وهي أعظم مهمة حملها الإنسان، وناءت بحملها السماوات والأرض والجبال، وفصَّلت الآية (125)، في بعض تفاصيلها، مثل خدمة أهل بيت الله الحرام، وحجيجه، أما الحاجات الأساسية، ممثلة في {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}؛ كان العهد الإلهي، بأن يكون للمؤمن والكافر على حدٍ سواء.
في الأولى، الإمامة والنبوة؛ قال الله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، أما في الثانية؛ في الرزق والثمرات؛ قال عز وجل ردًّا على خطاب إبراهيم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، {مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، ظنًّا منه أن ذات الحكم في الأولى، الإمامة والنبوة، ينطبق على الرزق المادي، استجابة وانصياعًا لله عز وجل وتأدبًا معه؛ قَالَ: {وَمَن كَفَرَ}؛ فشمل الكافرين بالرزق المادي الذي هو أدنى من عظيم الأمور التي خصَّ الله عز وجل بها المسلمين والمؤمنين من عباده.
وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي خاطب بها الله تعالى أهل الكفر والمجتمعات التي نزلت فيها رسالته ونبواته، مثل: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)} [سُورة "القَصَص"]، هنا العقاب جاء لأن هؤلاء القوم "بطروا معيشتهم" أو جحدوا وكفروا بأنعم الله تعالى عليهم، ممثلة في الرزق المادي القريب، وفي الآية، كما يقول ابن كثير، إنه كان فيها تعريض بأهل مكة.
وذات الرسالة في سُورة "قريش"؛ حيث يقول الله: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)}، وفي سُورة "العنكبوت": {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ(67)}.
في هذه الآيات؛ أتت عناصر المنَّة الإلهية على الناس غير المؤمنين، في الأمن من الخوف، وتوفير الرزق المادي، لحثهم على الإيمان، مع الوعيد لمن يمد في كفره وطغيانه منهم.
يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سُورة "سبأ"].
هنا الجزاء والعقاب الصارم لمن يكفر بهذه النعم، وأن الإيمان هو شرط نجاة الإنسان من هذا العقاب "فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ".
لنقارن ذلك بالخطاب القرآني الموجه للمؤمنين، ففي سبعين آية من آيات القرآن الكريم، هي آيات الجهاد والنفير والقتال في القرآن الحكيم؛ سوف نجد صورةً مختلفة تمام الاختلاف، في المحتوى والأسلوب وكل شيء، فهناك الأمر الصريح بالجهاد والقتال وبذل الأنفس والأموال في سبيل الله، والنفير لأجل نصرة دينه ودعوته، وصد عدوان أهل الكفر والضلال.
ويكفي هناك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [سُورة "الأنفال":72].
ويقول كذلك: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [سُورة "التَّوبة]، ويقول: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)} [سُورة "الحَج"].
في هذه الآيات الكريمات، وغيرها من الآيات التي تخاطب المؤمنين، فيها معالي الأمور، وفيها الدعوة إلى البذل، حتى بأغلى ما يملك الإنسان، نفسه وماله، ولا يبالي رب العزة سبحانه بذلك؛ لأنه يعلم مَن خلق، ويعلم أن الإيمان يتم على الإنسان إنسانيته، وفهمه؛ فيعلم المسلم أنه قد خُلق لمعالي الأمور، ولأداء رسائل مقدسة، اصطفاه بها خالقه، باعتباره من أمة التكليف.
"الارتقاء في التكليف، هو الفارق الأساسي بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وهو الفارق بين الإنسان الكامل وغير المكتمل في إنسانيته"
هذا الارتقاء في التكليف، بدلاً من الحديث عن الأمن من الخوف والإغناء من الجوع، إلى الجهاد والبذل، وهو يعلم –سبحانه– أنهم سوف يستجيبون وهم راضون مستبشرون؛ هو الفارق الأساسي بين أهل الإيمان، وأهل الكفر، بل هو الفارق بين الإنسان الكامل، والإنسان غير المكتمل في إنسانيته، الذي يعيش حياة الأنعام؛ يأكل ويشرب وكفاه ذلك.
وهذا الرضا، وهذا الاستبشار، يأتي من صفة إنسانية مهمة بدورها، وهي الفهم؛ فالمؤمن فَهِمَ دنياه، وفَهِمَ دوره، وفَهِمَ أركان هذا الإيمان، بما فيها من إيمان بالحياة الآخرة، وبأنها هي الحياة الحقيقية، وهي دار المستقر، وأن حاله فيها سوف يكون بناءً على ما أبلاه في حياته؛ فيكون البذل والجهاد عن رضا، لأنه في النهاية في مصلحة الإنسان.
كل هذا من تمام بشرية الإنسان وإنسانيته، أما الآخر غير المؤمن، والذي لا همَّ له إلا اتباع الهوى والشهوات؛ فالقرآن الكريم واضح تمامًا في هذه النقطة؛ فيقول الله تعالى في سُورة "الفرقان": {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا (44)}.
أي يا محمد – "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" – لا تحسبن هؤلاء من البشر؛ لهم ما للبشر الأسوياء من صفات الفهم – "يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ" – وإنما هم أقرب للأنعام في عَيْشتهم!
ولعل ما في هاتَيْن الآيتَيْن وآيات السورة الأخرى، من فرقين بين المؤمنين وحالهم وبين غير المؤمنين وحالهم، سببٌ آخر لتسميتها بهذا الاسم، بجانب أن مفتتحها كان في الحديث عن القرآن الكريم، باعتبار نزوله متفرقًا على الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}.
ويبقى السؤال: من أنت في هذه الفئات؟!، وهل تقبل بالدَّنية في دينك وإنسانيتك وكرامتك التي ميزك الله تعالى بها عن سائر مخلوقته؟!.