توهم لو أنك تقف أمام شجرة من التفاح، تحمل على أغصانها الكثير من الثمار الناضجة، وتساءلت حول كمية البذور التي قد تجمعها من هذه الشجرة؟ أظنك ستذهل من مجموع البذور الضخم الذي توصلت إليه..!! فتعود لتتساءل من جديد.. هل هذا معقول؟ وهل نحتاج إلى كل هذه الكمية الضخمة من البذور لإنتاج شجرة مثمرة مثل هذه؟
بالفعل إنها أسئلة مشروعة، والجواب سيأتيك سريعا أن "نعم"!! قد تكون البذور اللازمة لمثل هذه الشجرة كثيرة، ولكنني أريد أن أسألك أي واحدة منها كانت السبب في نمو الشجرة وسببا في إنتاج ثمارها؟ وهنا تكمن حقيقة هذا السؤال، إذ أنك قد تنفق الآلاف من البذور، دون أن تستطيع تقدير العائد، أو معرفة كمية المحصول الذي ستجني، آه.. كم هو عظيم ذلك الانسان، يزرعُ الآلاف منها.. ويرجو نمو واحدة.
فلا تتردد أن تغرس البذور في تربة من حولك، فلا بد لها أن تنمو وتجد مكانها في تلك الأرض، فحتى الخير والشر بذرة كما يقول سيد قطب رحمه الله: "بذرة الشر تهيج، ولكن بذرة الخير تثمر، إن الأولى ترتفع في الفضاء سريعاً ولكن جذورها في التربة قريبة، حتى لتحجب عن شجرة الخير النور والهواء، ولكن شجرة الخير تظل في نموها البطيء، لأن عمق جذورها في التربة يعوضها عن الدفء والهواء".
"كم نحن بحاجة اليوم للمزيد من البذور التي نغرسها في مجتمعاتنا لكي نحيي خلقاً اجتماعياً بدأ يخفت بريقه في ظل مادية الحياة وسعار التنافس المحتدم بين البشر"
وكم نحن بحاجة اليوم للمزيد من البذور التي نغرسها في مجتمعاتنا لكي نحيي خلقاً اجتماعياً بدأ يخفت بريقه في ظل مادية الحياة وسعار التنافس المحتدم بين البشر، وتزايد الأنانية المفرطة والرغبة بالتسلط والاستئثار بكل شيء، فكم نحن بحاجة لأن يعطي كل منّا دون مقابل، يعطي بما يعرف وبقدر ما يستطيع دون انتظار لأجر أو شكر بالمقابل.
المطلوب اليوم بذوراً لا تعرف لوناً ولا تنحصر في نوع، فالعطاء لا يقتصر على لونٍ أو جانب واحد من جوانب الحياة، فكل ميسر لما خلق له وكل منّا يستطيع أن يعطي من سعته، فالجود بالمال عطاء تفك به كربة أو تيسر عن معسر، والنصيحة الأمينة عطاء، والابتسامة الصادقة عطاء، والعلم والمعرفة عطاء، والحب الدافئ عطاء، وبذل النفس في سبيل الله أسمى درجات العطاء وأرفعها منزلة، فلا تستصغر نفسك ولا تقلل من عطائك.
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
تاءات العطاء الثلاث:
المجتمع القيميّ يؤمن بأنّ العطاء يحثّ أفراده على إظهار الاهتمام لما يحيط بهم؛ ومدّ يد العون للغير، والعمل على تحقيق احتياجاته، كما أن العطاء يعمل على تحقيق ثلاثية قِيَميَّة أخلاقية في المجتمع تدفعه نحو الاستقرار والطمأنينة والسلم الذاتي فبالعطاء يتحقق: التراحم والتواد والتزكية.
ففي العطاء تزكية للنفس وتهذيب لها، تتخلص من حب الدنيا بمشاركة الآخرين والبذل لهم، مما يجلب الرحمة بين أفراد المجتمع فكل فرد سيحرص على من حوله ويتفقدهم، وخلق التراحم هذا يولد التواد بين طبقات المجتمع وأفراده المختلفين.
"لا تنزعج من كثرة البذور التي تزرع، وكن على يقين أن البذور التي تزرعها في تربة من حولك، ستنمو في يوم من الأيام أو على الأقل ستنمو واحدة منها"
إن العطاء قيمة وخلق عظيم لا بد من أن ينشأ الجيل القادم على حبه وتطبيقه ليتخلص من الأنا الضيقة إلى نحن الواسعة الشاملة، فتعم السعادة أرجاء الكون فـ"السعادة الإنسانية الصحيحة هي في العطاء دون الأخذ، فما المرءُ إلا ثمرةً تنضج بموادها، حتى إذا نضجتْ واحلوّت؛ كان مظهرَ كمالها ومنفعتها في الوجود أن تهبَ حلاوتها، فإذا هي أمسكت الحلاوة على نفسها؛ لم يكن إلا هذه الحلاوةَ بعينها سببٌ في عفنها وفسادها من بعد. أفهمت؟".
هي الحياة، تحتاج منك الكثير الكثير من البذور، لكل موقف أو فكرة أو عمل، فكم من بذرة زرعت بهدف تغيير سلوك، وكم من البذور التي دفنت لتصحيح صورة أو مسار، وكم أنفقنا منها لأجل رؤية ما نرجوه للآخرين، فلا تنزعج من كثرة البذور التي تزرع، وكن على يقين أن البذور التي تزرعها في تربة من حولك، ستنمو في يوم من الأيام أو على الأقل ستنمو واحدة منها، إن وجدت أرضا خصبة تسكن فيها، أو تربة صالحة تتغطى بها، أو ماءً طاهراً تشرب منه.
ولا تكترث بتكلفة البذور وزرعها ومراقبتها والاعتناء بها، لأن التعويض واقع، والضمان موجود، من قبل أن تدفنها في التربة، فأجرك وثوابك مكفول من الله وكفى به كفيلا.
لذا انثر البذور على من حولك، انثر الكثير الكثير منها، دون يأس أو تردد أو استبطاء للنتائج، أو ترقب لردة فعل مشابهة أو قريبة، فلقد ترسل المئات من الرسائل ولا يأتيك الرد إلا قليلا، وقد تبعث بالمئات من الصيحات ولا يرجع لك إلا صداها، وقد تنفق المئات من دقائق عمرك ولا يعود عليك إلا غرامة إنفاقها.
ابذل كل ما تستطيع ولا تبخل على أحد ولا تقلل من عطائك، فرياح الجود العطائية تلك هي سعادتك وبوصلة حياتك وأثرك الباقي من بعدك، وكلما أعطيت بلا مقابل رزقت بلا توقع.