من أوائل ما يتعلمه الداعية حين ينتسب للحركة الإسلامية أن يثبت "معاني الإخلاص في قلبه". وكيف يدّرب نفسه على "العمل دون الإكثار من القول". وعلى "العطاء بعيداً عن الأضواء". ولا ينبغي للداعية أن يمنّ بتضحياته وسوابقه على الحركة، ولا أن يتعالى على إخوانه بما قدم من خير وما جناه من فضل.
ويحرص الداعية على أن لا ينسب لنفسه الإنجازات والنجاحات التي تحققها الحركة حتى لو جاءت على يديه وبسببه، ويظل الداعية يقاوم هوى نفسه حتى يعتاد على التقليل من لفظ "أنا" ويصبح من الغريب أن تسمعه يقول: فقلت وقدمت وأعطيت.
ثم هو يحافظ على هذا النهج حتى يصل إلى مرحة "نكران الذات" ونسب كل الخير إلى المجموع والإقرار التام بأن الفعل كله لله تعالى، وأنه ليس أكثر من أداة لقدر الله يسير الأمور بواسطتها.
وهذه مفاهيم يجدر بالحركة أن تنشرها وتعممها بين صفوفها، وهي تربية يكبر عليها الصغير ويعيش معها الكبير ويسير عليها الجديد المبتدئ.
"لا يقبل أن تغيب معاني الإخلاص والعطاء عن أجواء الحركة؛ لأنها إحدى ميزاتها وعلامات نقائها، وهي سبيلها للحصول على تأييد الله وتوفيقه ورعايته"
ولا يقبل أن تغيب هذه المعاني عن أجواء الحركة؛ لأنها إحدى ميزاتها وعلامات نقائها، وهي سبيلها للحصول على تأييد الله وتوفيقه ورعايته.
لكن ذلك كله لا يعني منع الداعية من حقه في ذكر فضائله وسوابقه في حالات معينة.
إذ إن فقه الدعوة يفيدنا بجواز ذلك ضمن ضوابط وشروط عند الحاجة إلى ذلك.
فنرى عثمان بن عفان رضي الله عنه "حين أنهى" اتهمه أهل الفتنة بما ليس فيه وحرضّوا عليه، فرد عليهم وذّكر الناس بمكانته وبعض فضائله ومنها وعد الرسول صلى الله عليه وسلم له بالشهادة، وأنه صلى الله عليه وسلم بايع بدلاً من عثمان يوم بيعة الرضوان حين كان عثمان مبعوثاً للرسول صلى الله عليه وسلم لدى مشركي مكة ، ثم إن عثمان طلب شهادة الآخرين قائلاً : أنشد الله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "من يوسع لنا البيت في المسجد ببيت له في الجنة" فاتبعته من مالي فوسعت به المسجد، فقام نفر من الحضور وشهدوا بذلك لعثمان.
وكذلك ذكر عثمان كيف أنه جهز نصف جيش المسلمين يوم العسرة من ماله الخاص.
ثم قال عثمان مضيفاً "إني رابع أربعة في الإسلام. ولقد أنكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ثم توفيت فانكحني ابنته الأخرى. ولا زنيت ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد جمعت القرآن الكريم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أتت علي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة فأجمعها في الجمعة الثانية".
ولم يكن ذلك من باب المفاخرة المذمومة ولا من باب المدح للنفس الذي نُهينا عنه.
وعثمان ممن اشتهر بالحياء والتواضع، وفضله معروف لكن الحال اقتضى أن يُعدد مأثرة بنفسه لدفع موجة التحريض التي شنها المغرضون ضده.
• وكان سعد بن أبي وقاص قد ولي الكوفة في خلافة عمر بن الخطاب، فاحتّج عليه بعض أهلها ورفعوا ذلك إلى عمر حتى أنهم انتقدوا صلاته وادّعوا أنه لا يؤديها حق الأداء، فلما استدعاه عمر مستفسراً عن ذلك كله، غضب سعد وتأثر؛ لأن ما قيل كان افتراء عليه ليس فيه وجه حق، وراح يحدث ببعض مناقبه أمام الخليفة عمر فكان مما قاله:
"لقد أسلمت خامس خمسة. ولقد كنا ومالنا طعام إلا ورق "الحبلة" حتى تقرّصت أشداقنا وإني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله، ولقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه وما جمعهما لأحد قبلي" -حين قال لي الرسول: (ارم سعد بأبي أنت وأمي)- وكان سعد يعدد وأمير المؤمنين عمر يستمع ويقر ويرتاح قبله ويطمئن؛ لأنه أحسن اختيار ولاته وعمّاله.
"يدخل في هذا الباب جواز أن يتمنى الداعية قيادة عمل ما، أو تولّي مسؤولية نشاط معين في الحركة، إذا ضمن حسن نيته وصدق إخلاصه، وإذا كان الذي يدفعه على ذلك البحث عن الأجر والثواب"
ويدخل في هذا الباب أيضاً "جواز أن يتمنى الداعية قيادة عمل ما"، أو تولّي مسؤولية نشاط معين في الحركة إذا ضمن حسن نيته وصدق إخلاصه، وإذا كان الذي يدفعه على ذلك ليس حب المناصب ولا الرغبة في الصدارة وإنما بحثاً عن مزيد من الأجر والثواب، وليس له أن يطلب مهمة ما إذا علم أنه ليس أهلاً لها أو أن في إخوانه من هو خيرٌ منه لها، وهو ملزمٌ انتهاءً بقبول قرار قيادته برضاً وتسليم.
وفي قوله {واجعلنا للمتقين إماماً} إشارة لهذا المعنى تدل على أن المؤمن يتمنى من الله أن يعينه ليكون قدوة في الخير وقائداً لإخوانه في الأعمال الصالحة.
وورد أن خالد بن الوليد كان يقول: "ما من ليلة إلي فيها عروس أو أبشّر فيها بغلام أحبّ إليّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبّح بهم العدو".
وأمعن النظر في قوله "أصبّح بهم" والتي تفيد بأنه هو الذي يقودهم ويحركهم وخالد لم يطلب وزارة ولا حكماً، وإنما قيادة في ساحات المعارك، والمسؤول فيها أول من يدفع الثمن من دمه ونفسه، كما أنه لم يكن صاحب هوى ولا طالب مصلحة ذاتية، وكان قد أثبت عملياً التزامه بالقرار حين سلّم قيادة الجند إلى أبي عبيدة بحسب الأوامر التي صدرت من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، واستجاب خالد رغم قدراته المعروفة وانجازاته المشهودة.
قد يجد الداعية إهمالاً من بعض إخوانه وقد يقلل آخرون من إمكاناته وقدراته، وقد يجهلون مكانته وينكرون فضله، وهذه الحالة ظاهرة في الحركات التي تعمل في أجواء من السرية والكتمان ولا تسنح الفرصة لكل عناصرها وقادتها لأن يتعرف بعضهم على بعض بشكل مباشر.
وحركتنا التي يقوم أغلب عملها على أساس مقاومة المحتل وما يتبع ذلك من ضرورات أمنية هي في هذا الإطار، مما قد يضطر الأخ في مراحل معينة على تعريف نفسه أمام إخوانه ولا بأس أن يذكر بعض تضحياته وإنجازاته عندما تكون لذلك حاجة، ولا يعاب موقفه ذلك ويبقى الأصل في منهجنا إنكار الذات والعمل في الخفاء والحفاظ على نقاء الأعمال بين الداعية وبين ربه تعالى.