حق الأهل على الداعية .. لا إفراط ولا تفريط

الرئيسية » بصائر تربوية » حق الأهل على الداعية .. لا إفراط ولا تفريط
الأسرة9

الداعية في مسيرته يحتاج إلى ضبط علاقته مع أهله من جانب ومع عمله الدعوي من الجانب الآخر، بحيث لا يطغى طرف على آخر مما يؤدي إلى ضياع للحقوق وتقصير في الواجبات.

إن عدم قدرة الداعية على إيجاد توازن وتوافق بين هذه العلاقات قد ينتهي به إلى فقدان كل شيء فينكفئ على ذاته ويتعطل دوره المتوقع في إحداث التغيير والإصلاح.

كما أن التوفيق بين هاتين العلاقتين يتطلب كخطوة أولى فهم منطلقات وضوابط كل علاقة بعد إدراك الأسس الشرعية والأبعاد النفسية المرتبطة بذلك. إذ إن سلوك المرء وتصرفاته تعتمد على قناعاته العقلية واستنتاجاته الفكرية وتصوراته الذهنية حول كل قضية.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وإنّ لزوجك عليك حقاً" وذلك في معرض شرحه لأنواع الحقوق المترتبة على المسلم. وخص الزوجة بالذكر لأهمية مكانتها ولشدة تأثرها بكل تقصير يأتي من طرف الداعية ولحزنها الشديد نتيجة أي إهمال يبديه الزوج تجاهها.

"التفريط المطلق بحق الأهل قد يأتي نتيجة تربية دعوية غير متوازنة في بعض الأحيان"

كما يحمّل الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل المسؤولية الأولى عن بيته وعائلته بقوله "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وبيّن أن الرجل راع في بيته وهو المكلف بمتابعة شؤونه واحتياجاته، وفي المقابل فإن نشر الدين والدفاع عنه هو مهمة المسلم الأولى، والداعية مكلف بالقيام بكل واجباته تجاه دعوته. ولذلك تجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من التقصير في هذا الشأن بقوله "أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك".

وقد مثلت السيرة العملية للرسول صلى الله عليه وسلم خير مثال تطبيقي في الجمع والتوازن بين مختلف الواجبات الملقاة على المسلم.

لكن واقع الحال اليوم يشير إلى خلل واضح في هذه المسألة لدى عدد كبير من الدعاة، حيث يجنح البعض إلى التقصير، فتراه يأنس إلى زوجته كل الوقت، ويقضي كل الساعات يداعب أطفاله ويلهو معهم، حتى يصبح ارتباطه بالعمل الدعوي شكلياً، وصلته بإخوانه واهية ضعيفة. وهذا سلوك مرفوض يخالف عزم الرجال وجدية المصلحين، ويتعارض مع الهمم العالية والنفوس التواقة للتحرير وطرد المحتل. ومع ذلك فإن الحديث في هذه السطور لا يتناول هذا الصنف من الناس؛ لأن حاله بيّنةٌ واضحة، وهو يدرك أنه يجانب الصواب بموقفه ذلك، وهذا ما أسهب الفقهاء في شرحه وأطال المربّون في نقده.

وإنما نركز القول على الصنف المقابل الذي بالغ بصورة مغايرة وصلت حدّ التفريط المطلق والمتواصل في حق الأهل عليه. فما عاد الأخ يدخل بيته إلا قليلاً، وتراه لا يتابع أولاده ولا يشارك في تربيتهم، ولا يهتم بزوجته ولا يراعي متطلباتها المعقولة، ولا يجاملها ولا يلاطفها، ولا يعوضها عن ساعات انشغاله الدعوي الطويلة، ولا يخصها بالهدايا، ويتجاهل كل المناسبات العائلية والاجتماعية وحتى الشخصية.

ولهذا السلوك أسباب ودوافع تحتاج إلى توضيح وتأصيل. وأولها الظن بأن هذا هو التصرف السليم، وقد يأتي هذا نتيجة تربية دعوية غير متوازنة في بعض الأحيان، فقد انتشرت بيننا في أيام انتمائنا الأولى للدعوة قصة مفادها أن الإمام البنا كان في نشاط دعوي اعتيادي لا يتعلق بأمر مصيري، ثم جاءه خبر يؤكد على أن ابناً له كان مريضاً فمات، فلم يترك البنا المكان وأرسل إلى عائلته بأن يدفنوا الولد بسبب انشغاله في أمور الدعوة، وهي حكاية غريبة حاولت التأكد من صحتها سنوات طويلة، فلم أعثر لها على أصل. واليوم صرت على يقين بعدم ثبوتها، وإنها لا تتناسب مع شخصية الإمام البنا، المبنية على الوسطية والتوازن وحفظ الحقوق.

وقد كان سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قد لاحظ أن أبا الدرداء يقوم الليل كله ويصوم النهار طول الدهر فنهاه عن ذلك، ولفت انتباهه إلى ضرورة إعطاء زوجته حقها دون التقصير بحق الله تعالى.

"اعتدنا على اللجوء إلى الخيار الأسهل، المتمثل بتكثيف الأعباء والتكاليف على كل أخ أو مسؤول يبدي استعداده للعمل دون تردد، ونغفل عن تذكيره بحق أهله عليه، أو لا نساعده على ذلك"

ومن الأمور التي تساعد على إهمال الأهل، ظنّ الداعية وبضغط من إخوانه أحياناً بأن العمل بكل تفاصيله لا يمكن أن ينجز إذا غاب هو عنه، وإن المتابعات الدعوية في مجال ما ليس لها أن تتقدم إلا بوجوده في كل الجزيئات والفرعيات وبشكل متواصل. وهذا كلام تنقصه الدقة؛ لأن التجارب ما زالت تثبت بأن الدعوة لا تموت، ولا تتوقف لغياب أيّ كان بسبب اعتقال أو اغتيال، لكننا اعتدنا على اللجوء إلى الخيار الأسهل، المتمثل بتكثيف الأعباء والتكاليف على كل أخ أو مسؤول يبدي استعداده للعمل دون تردد، ونغفل عن تذكيره بحق أهله عليه أو لا نساعده على ذلك.

وليس غريباً أن تجد مسؤولاً في الدعوة يتابع أو يشارك في لجان مختلفة ومجالات دعوية متعددة في مرحلة واحدة. وكل لجنة تنتظر منه تقديم معظم وقته لها. وكل هيئة تطالبه بمزيد من التفرغ والمتابعة، وإذا ما كان صاحب إخلاص وهمة فإنه يخصص جلّ حياته وكل طاقته من أجل القيام بواجبه. فينسى أهله ويقصر في حقوقهم. ولو أن ذلك يأتي في مراحل معينة، أو عند ازدحام العمل الحركي، لكان الأمر مقبولاً. أما أن تسير الأحوال على هذا المنوال سنوات طويلة متواصلة دون انقطاع، حينئذ يظهر الخلل وتبدأ مظاهره بالتأثير على حياة الداعية ونفسيته وهمّته.

"تنظيم العلاقة بين الداعية وأهله وبينه وبين دعوته مبني على منهج الوسطية وفقه الموازنات. والقاعدة في ذلك: لا إفراط ولا تفريط"

إن تذرعنا بأن الدعوة تمر بأزمة صعبة وأننا نعيش حالة طوارئ، مقبول في بعض الأحيان بما يضطر الدعاة للانشغال عن أهلهم، على أن ذلك لا يقبل حين يصبح حالة دائمة ثابتة في كل الأوقات. وفي الوقت الذي تركز فيه الدعوة جهودها في نقد دعاة بالغوا في الركون إلى الأهل والولد، ولم يعطوا الدعوة إلا فضول أوقاتهم، فإن الدعوة مطالبة أيضاً بتهيئة الأجواء للدعاة العاملين المتفانين كي يؤدوا حقوق أهلهم عليهم، وعلى عاتق هذا النوع من الدعاة تقع مهمة ترتيب أوقاتهم والعناية بأهلهم ومشاركة الزوجة والأولاد في المناسبات العامة والخاصة، ويمكن تحديد يوم كامل لهم بين الحين والآخر بحسب الظروف وتبعاً للمرحلة.

إن تنظيم العلاقة بين الداعية وأهله وبينه وبين دعوته مبني على منهج الوسطية وفقه الموازنات والقاعدة في ذلك: لا إفراط ولا تفريط.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب في موقع بصائر، قيادي في حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وناطق باسمها. أسير فلسطيني محرر في صفقة وفاء الأحرار.

شاهد أيضاً

صنم الذات: كيف يهدم الرياء ما تبنيه يدك؟

من بين أكثر أمراض القلوب خفاءً وتأثيرًا، يبرز داء حب الظهور، ذاك الذي يجعل من …