سقطت الأوراق.. هل يعنينا ذلك؟

الرئيسية » خواطر تربوية » سقطت الأوراق.. هل يعنينا ذلك؟
أوراق الخريف

هي الأيام تمر سريعة جداً وتنقضي معها الأعمار والآجال من حيث ندري أو لا ندري، وليس أدلّ على ذلك من أنّ أوراق الأشجار الجميلة التي كست الأشجار وبهرنا جمالها ونضارتها، هي الآن تذوي يابسة صفراء مع الريح معلنة عن دخول فصل الخريف الذي يرتبط اسمه في وجداننا بتساقط أوراق الأشجار وهبوب الرياح وتغير الطقس وانخفاض الحرارة تمهيداً لفصل الشتاء، ما يجعل أجواءه ثريّة بالتغيرات الطبيعية التي تثير وجدان المتأملين في ملكوت الله، المتفكّرين في خلق السماوات وما ينزل منها وما يعرج فيها، والأرض وما يخرج منها.

إنه الفصل الذي يذكرنا بآية الأنعام: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (59). تلك الآية التي تتحدث عن سعة علم الله جلّ وعلا وإحاطته بكل شيء، ما يستوجب تسبيحه وتعظيمه في كل آن وحين مع تحرّي ذلك كلما سقطت ورقة أمام ناظرنا. وهو ما يستجلب في الحال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مر بشجرةٍ يابسةِ الورقِ فضربها بعصاهُ فتناثر الورقُ فقال: إنَّ الحمدُ للهِ، وسبحانَ اللهِ، ولَا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، لتساقط من ذنوبِ العبدِ كما تساقطَ ورقُ هذه الشجرةٍ". (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

" ما أجمل التقاء تلك المنظومة المسبِّحة الخاشعة لله كي يمتلئ الفضاء بتسبيح الخالق جلّ وعلا، ومثيلاً لذلك أن يلتقي المسلم بأخيه المسلم فيتصافحا حبّاً وودّاً وإخاءً في الله"

إنها مشاهد مترابطة يستحضر بعضها الآخر، حتى تصبح كل حركة في هذا الكون الفسيح مرتبطة بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير في تناسق وتناغم رائع بين منظومة المخلوقات التي تخشع لله وتسبح الله وتسجد لله، قال تعالى: {ألم تر أنّ الله يسجد له من في السّماوات ومن في الأرض والشّمس والقمر والنّجوم والجبال والشجر والدوابّ وكثير من النّاس وكثير حقّ عليه العذاب} [سورة الحج:18].

ما أجمل التقاء تلك المنظومة المسبِّحة الخاشعة لله كي يمتلئ الفضاء بتسبيح الخالق جلّ وعلا، ومثيلاً لذلك أن يلتقي المسلم بأخيه المسلم فيتصافحا حبّاً وودّاً وإخاءً في الله.. في صورة بهيجة تستحضر المشهد الخريفيّ الأخّاذ لحظة تساقط أوراق الأشجار.. كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المؤمنَ إذا لقِيَ المؤمنَ فسلَّمَ عليه وأخذ بيدِه فصافحَه تناثرَتْ خطاياهما كما يتناثرُ ورقُ الشَّجرِ" (السلسلة الصحيحة للألباني 1/52). وفي رواية: (إنَّ المسلمَ إذا صافح أخاه تحاتَّتْ خطاياهما كما يتحاتُّ وَرَقُ الشجرِ) (صحيح الترغيب للألباني 2721).

يسحرك منظر الأشجار وهي تلقي بأوراقها اليابسة الصفراء التي باتت تشوه منظرها وتثقل كاهلها تماماً كذنوب العبد وسيئاته، فلا عليه إذن إلا أن يتحرّى الأعمال التي تحُتُّ عنه ذنوبه وسيئاته، وتزيل عنه أثقاله من الأوزار والخطايا.. والحبيب صلى الله عليه وسلم يرشدنا إليها بقوله: "إنَّ المسلمَ إذا توضأ فأحسنَ الوضوءَ، ثم صلَّى الصلواتِ الخمسِ، تحاتَّتْ خطاياه كما تحاتَّ هذا الورقُ، وقال: أَقِمِ الصلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مَنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرينَ" (رواه أحمد بسند صحيح). ولا يقف الأمر عند ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم يأتيك بمشهد عجيب قلَّ من يستشعره في حضرة الصلاة.. فيقول: (إنَّ المسلمَ يصلّي وخطاياه مرفوعةٌ على رأسِه كلما سجد تحاتَّ عنه فيفرغُ من صلاتِه وقد تحاتَّتْ عنه خطاياه) (صحيح الترغيب للألباني 362).

" إنّها آيات الله تتبدّى في كل شيء حولنا، وإنّ هذه الأيّام والشهور والفصول والسنين أوعية وخزائن، فلنملأها ذكراً وتفكراً وتأمّلاً وتسبيحاً وتهليلاً وتحميداً"

ومادام الحديث هنا عن تكفير الخطايا فليس لها مثل الشهادة في سبيل الله، فهل منّا من يسأل الله تعالى شهادة خالصة لوجهه وهو يتأمل تساقط الأوراق؟ هل منّا من يتذكّر الحبيب صلى الله عليه وسلم يبشر عشاق الشهادة بأجمل خاتمة وبأجمل وصف يسحر العقول والألباب: (إنَّ أولَ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ من دَمِ أَحَدِكُمْ يَحُطُّ اللهُ مِنْهُ بِها خَطَاياهُ كما يَحُطُّ الغُصْنُ من ورَقِ الشجرَةِ) (صحيح الترغيب للألباني 1377). وهل نذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم يبشرنا وهو في آخر أيامه فيما يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "أتَيْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مرضِهِ، وهو يُوعَكُ وعْكًا شَديدًا، وقُلْتُ: إنَّكَ لَتُوعَكُ وعْكًا شَديدًا، قُلْت: إنَّ ذاك بأنَّ لك أجْرَينِ؟ قال: (أَجَلْ، ما مِن مُسلِمٍ يُصيبُهُ أذًى إلا حَاتَّ اللَّهُ عنه خَطاياهُ، كما تَحاتُّ ورَقُ الشَّجَرِ" (رواه البخاري).

إنّها آيات الله تتبدّى في كل شيء حولنا، وإنّ هذه الأيّام والشهور والفصول والسنين أوعية وخزائن، فلنملأها ذكراً وتفكراً وتأمّلاً وتسبيحاً وتهليلاً وتحميداً عسى مع كل ورقة تسقط ذنبٌ يمحى، وحاجات تقضى، وأنوار تتلألأ وأنفسٌ تتزكّى، لتبلغ المراتب العلا بصحبة النبي المصطفى عليه منّا أفضل الصلاة والسّلام وآله وصحبه الكرام.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

لماذا أُخفيت ليلة القدر؟ دروس إيمانية وحكم ربانية

إن من الحكم الإلهية في بعض التشريعات عدم تحديد أوقات بعض العبادات والطاعات بدقة، ومن …