ذهبت إلى عزاء الراحل الكبير زياد أبو غنيمة، فكان كما توقعت حاشدا بالناس على نحو لم أشهد مثله سوى في حالات جد نادرة، وتلك لعمري شهادة للرجل الذي ظل حتى أيامه الأخيرة قابضا على جمر الحق والحقيقة لم يغير ولم يتغير، رغم تقلبات عصفت بكثيرين خلال المراحل الماضية.
الأيديولوجيا ليست عاصما في عالم السياسة والعمل العام، إذ يحدث أن يسقط في وحله الإسلامي واليساري والليبرالي والقومي، وفي داخل كل إطار من الأطر المذكورة يحدث الشيء ذاته، كما هي حال الإسلاميين من كل الألوان الفكرية، ومن يتابع ما يكتبه ويصرّح به أمثال محمد حبيب وكمال الهلباوي من قادة الإخوان السابقين في مصر يدرك ذلك، تماما كما هي الحال في المثال الأبرز على الانتهازية السياسية كما يمثلها حزب النور المحسوب على التيار السلفي، ولا تسأل عن عمائم أزهرية وصوفية إلى غير ذلك.
عرفت “أبو محمود” منذ ثلاثين عاما، وجمعنا هم العمل الإعلامي والصحفي، فضلا عن الإطار الحركي، قبل أن يواصل هو وأعتزل أنا، لكن ما أشهد به هو أن بوصلته لم تنحرف يوما، بخاصة في قضايا الأمة الكبرى، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، فضلا عن الهموم المحلية بكل تجلياتها.
ليس هذا مجال الحديث عن كتبه ودراساته ومئات، وربما أكثر من المقالات، وقد كان رحمه الله مغرما بالتوثيق حين كان الأمر عسيرا قبل زمن “الإنترنت”، ومنحه ذلك قدرة على نشر العديد من الدراسات التاريخية الجميلة عن العشائر الأردنية وتاريخ السياسة في المملكة.
أكثر ما يأسر في شخصيته هو تلك الغيرة، بل الحرقة على دين الله وحرماته، وعلى قضايا الأمة، وهي حرقة كانت تترجم ردودا صحفية، ومقالات واتصالات مع الصحف والمواقع والصحفيين والكتاب.
لم يكن رحمه الله يسكت عن ما يراه خاطئا، ولم يكن سلبيا في التعاطي مع الهجمات على ما يراه صوابا أو مقدسا، كما هي حال كثير من الإسلاميين ممن يكتفون بالشكوى والهجاء في الجلسات المغلقة، ولا يجشّمون أنفسهم عناء كتابة رد أو إجراء اتصال من أجل الاحتجاج على موقف خاطئ.
كان رحمه الله محاميا بليغا عن الظاهرة الإسلامية بكل تجلياتها، وعن قضايا الأمة في مختلف أقطارها وجراحها وأحزانها، وكان يصل الليل بالنهار من أجل الدفاع عن تلك القضايا؛ محاضرا ومتحدثا وكاتبا وفاعلا في مختلف النشاطات، وقبل شهور قليلة رأيته وهو ابن الثمانين مشاركا في مسيرة.
في زمن التقلبات والبيع والشراء، ينهض زياد أبو غنيمة رحمه الله نموذجا لصلابة الموقف، من دون أن يعني ذلك أننا ضد إجراء مراجعات في القضايا السياسية والعامة، لكن المراجعات شيء، والبيع والشراء، والانتهازية شيء آخر.
أما الأكثر سوءا في سيرة المنخرطين في العمل العام، فيتمثل في الركض وراء الثارات الشخصية والفئوية، وما من شيء يشوّه القلب والضمير أكثر من هذا، ولا نبتعد كثيرا عن الحقيقة إذا قلنا، إن كثيرا من أسباب الانحراف تتعلق بهذا البعد أكثر من أي شيء آخر.
يرحل زياد أبو غنيمة، تاركا إرثا طيبا من الكتب والمقالات والدراسات، ومعها نموذجا في الغيرة والحرقة على دين الله وقضايا الأمة، كما يترك خلفه أبناءً طيبين يحيون سيرته. نسأل الله أن يرفع مقامه، وأن يجعله مع الأنبياء والصديقين والشهداء .. وحسن أولئك رفيقا.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- صحيفة الدستور الأردنية