خلق اللهُ تعالى الإنسان، ضمن منظومة متكاملة من الخَلْق الإلهي، تتناغم في قوانينها، وتتسق في حركتها مع بعضها البعض، في ميزان دقيق، يضمن انتظام الكون، وبقاءه إلى أن يأذن الله تعالى، وتنفذ إرادته ومشيئته، وتنتهي الحياة الدنيا.
وجانب مهم من هذه القوانين وضعه الله عز وجل لحركة الإنسان؛ لأن الإنسان كمخلوق، ذو طبيعة خاصة؛ حيث إنه مخلوق، عاقل، ويتمتع بالحرية والإرادة الذاتية، وهذه السمات التي تميزه عن بقية خلق الله تعالى، تجعل من حتمية نفاذ قوانين الخلق في أمره، أقل درجة من باقي المخلوقات الأخرى، الحية وغير الحية.
وعلى عِلْم رب العزة سبحانه بطبيعة الإنسان، وهو يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؛ فإنه قيد حركته في الحياة الدنيا بمنظومة من القوانين؛ منعًا لطغيانه وجوره وخروجه عن قواعد الحركة السليمة المقننة التي تضمن ألا يؤذي باقي مكونات العمران، المادية أو المعنوية، سواء في نفسه، كإنسان، أو في باقي منظومة الخلق المحيطة به، والتي يتفاعل معها.
ومن ضمن أهم القوانين التي تضمن هذه المسألة؛ قانون الاستطاعة، وهو قانون عمراني تأسس في القرآن الكريم، بما يقول بأهميته؛ حيث إن تأسيسه في القرآن الكريم، يعني أن الله تعالى أراد له ديمومة التذكير في نفس الإنسان المسلم، وكذلك ضمان خلوده إلى حين رفع القرآن الكريم من الأرض في آخر الزمان، كما أخبر رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
"الإنسان العاقل؛ من المفترض له ألا يتجاوز حواجز الاستطاعة التي وضعها الله له، في أموره، حتى ما يتعلق منها بالأمور اليومية المعتادة وإنفاقه الاقتصادي"
يقول الله تعالى في الآية (286) من سُورة "البقرة"، وهي آخر آيات السورة: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ... الآية}.
هذه الآية تؤسس لقواعد عمرانية وحركية عديدة غائبة تمامًا عن سعي غالبية من المسلمين، وتزداد خطورة هذا الغياب في حالة الجماعات الحركية التي تتصدى لعظيم ومعالي الأمور في حياة الأمة، وتقوم بكل فرائض العين المقررة على المسلمين.
قانون الاستطاعة، بالصورة التي وردت في آية "البقرة"، تعني أن الله عز وجل، لا يكلف نفسًا إلا قدر استطاعة هذه النفس، وهو أعلم بخلقه حتى من أنفسهم، وهو ما يضمن انتظام حركة الخلق، لأن الإنسان العاقل الرشيد؛ من المفترض له ألا يتجاوز حواجز الاستطاعة التي وضعها الله عز وجل له، في أموره، حتى ما يتعلق منها بالأمور اليومية المعتادة وإنفاقه الاقتصادي.
وتبعًا لذلك يترتب على هذا المبدأ أن هذه النفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، أي أن الإنسان يتحمل مسئولية أية أفعال يقوم بها تخرج عن حدود الاستطاعة التي منحها الله تعالى له.
ويعني هذا القانون، أن الله تعالى لا يضع على الإنسان إصرًا أو وزرًا - هنا نعني بها عبئًا وثقلاً - إلا ما يحمِّله الإنسان لنفسه بلا داعٍ.
وقتها، ما دام الإنسان قد خالف قوانين الله عز وجل؛ فلن يحصل على دعمه ورعايته سبحانه.
بالمثل بعض المسلمين وبعض أفراد الحركة الإسلامية يفعل؛ تجده يضع نفسه في ظروف مستحيلة؛ ثم يشكو البلاء والابتلاء، ويتساءل عن أسباب غياب الدعم الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين.
"تنزُّلَ النصر الإلهي، له اشتراطاته، وهي إرادة إلهية لا راد لها، ومن أهمها أن يلتزم الإنسان بالقواعد والقوانين التي وضعها الله لسعيه في مختلف المواقف"
إن تنزُّلَ النصر الإلهي، له اشتراطاته، وهي إرادة إلهية لا راد لها، ومن أهمها أن يلتزم الإنسان بالأطر والقواعد والقوانين التي وضعها الله عز وجل لسعيه في مختلف المواقف، السياسة، الجهاد، الحياة العامة، الحياة الخاصة الأسرية، وحتى شئونه الفردية.
يخالف المسلم ثم يشكو، ويظن بربه الظنون (!!)، وينسى في السياق أنه محكوم أكثر من غيره بهذه القوانين والقواعد؛ لأنه الأكثر معرفة ودراية بها، باعتبار إسلامه، وبالتالي، باعتبار علمه المنبني على إسلامه، لأنه بعد إسلامه، من المفترض له أن يعرف ربه ودينه ويتدبر قرآنه ويفهم شريعته، وقوانينه، وهكذا.
ما هكذا قوانين ربنا، وهو أمر جلي أنه يعود إلى قضية الفهم، فغياب فهم الإنسان بحقيقة دينه والقواعد القرآنية؛ هو الذي يقود إلى تجاوز الإنسان إلى قانون الاستطاعة، كمثل من يذهب لكي يبني مسجدًا في بلد لا يؤمن حتى بوجود الله تعالى، ثم يبكي ويزعق بأعلى صوته، عندما يهدمون له المسجد، وقد يظن بالله الظنون، بينما الخطأ منه.
لقد وضع الله تعالى في شريعته قواعد التعامل للمسلمين في هكذا مجتمعات، وبالتالي مخالفتها؛ يقع عبئها وإصرها على المسلم، فلا تجأر بالشكوى، وأنت السبب في بواعثها.
"قانون الاستطاعة، لا يعني القعود، ولا يتنافى مع قاعدة "بذل الوِسْع"، وإنما يعني إعمال ضوابط الفعل الرشيد في العمل"
هذا الذي نقول، لا يعني القعود، ولا يتنافى مع قاعدة "بذل الوِسْع"، وإنما يعني إعمال ضوابط الفعل الرشيد في العمل وفق العبارة القرآنية التي يقول فيها رب العزة سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [سُورة "الأنفال" - من الآية 60]، هنا الطلب الإلهي فقط قدر الاستطاعة، وبذل الوِسْع يكون قدر استطاعة الإنسان، ولم يطلب الله تعالى – أبدًا – من الإنسان ما يفوق طاقته.
فهنا شعار "وَأَعِدُّواْ" محكوم بشرط الاستطاعة؛ أن نطلق على هذا الفعل، أنه يدخل أو لا يدخل ضمن طاقة "بذل الوِسْع".
هذا الأمر له ماصدقات عديدة على أوضاع جماعة الإخوان المسلمين، وسائر الحركات الإسلامية الإصلاحية التي ترفع شعار التغيير والإصلاح في بلدانها، وعلى مستوى الأمة؛ حيث تجاوزت القوى الثورية الإسلامية، في مرحلة ما بعد نجاح ثوراتها في بلدان العالم العربي التي شهدت ربيعًا سريعًا لم يستمر طويل؛ تجاوزت قانون الاستطاعة؛ فكانت النتيجة التراجع إلى حين، ولكن لهذا موضع آخر من الحديث.