لقد ذهب اليهود في فلسطين اليوم بعيدا في تدنيس الأقصى وتكريس سياسة الأمر الواقع في السماح للمستوطنين بالصلاة في باحاته وتكرار الاقتحامات المرافقة لقطعانهم دون أي اعتبار أو احتراز لردات الفعل المتوقعة من المحيط العربي والإسلامي على هذه الأفعال المشينة، والتي تعبر عن استهتارهم بهذه الأمة.
لقد صرح نتنياهو بأنه قد آن الأوان للسماح بالتقسيم الزماني للأقصى وفي عيد العرش الذي يستمر أسبوعا كاملا، قام الجيش الصهيوني باقتحام الأقصى يوميا من الساعة السابعة وحتى الحادية عشرة، ومنع المصلون خلال هذه الفترة من دخول المسجد، مما جعل كل الذين يهمهم أمر المسجد الأقصى يرفعون أصواتهم مطالبين المسلمين وحكوماتهم بالدفاع عن الأقصى الذي بات اليهود يفرضون عليه التقسيم الزماني. ولكن ما من ردة فعل حقيقية تردع الاحتلال عن تنفيذ مخططاته! بل إن ردة فعل الهيئات الشعبية في العالم الإسلامي لم تتعد الاستنكار أو المظاهرات الخجولة المعبرة عن الاستياء لهذه الخطوة، وهي لا تختلف كثيرا عن ردات فعل الحكومات الإسلامية. فما الذي يحدث؟ أين هي الغضبة للمقدسات وانتهاك الحرمات؟
"انتهاك حرمة الأقصى وتدنيسه من قبل سلطات الاحتلال قد كشف عن عجز الأمة وفضح حالها المتردي وما وصلت إليه من تشتت وفرقة وضياع"
ولولا غضبة أهل فلسطين وهبتهم وانتفاضهم في وجه المحتل بالحجارة والسكاكين وكل ما تصل إليه أيديهم لهدم الأقصى وبني هيكل داود مكانه.
إن انتهاك حرمة الأقصى وتدنيسه من قبل سلطات الاحتلال قد كشف عن عجز الأمة وفضح حالها المتردي وما وصلت إليه من تشتت وفرقة وضياع.
نظرة في التاريخ
لقد بقيت القدس في أيدي المسلمين إلى أن احتلها الصليبيون إثر ضعف الدولة العباسية سنة 492 هـ.
وقد وقعت القدس بيد الصليبيين وبقيت أسيرة لهم مدة طويلة إلى أن استعيدت إلى المسلمين على يد صلاح الدين الأيوبي عام 583 ه، وبقيت في أيدي المسلمين إلى أن تولى الملك الكامل من الأسرة الأيوبية وعقد اتفاقاً من الفرنجة سلمهم بموجبه القدس ما عدا الحرم الشريف سنة (626 هـ) واستردها الملك الناصر سنة 637هـ، ثم سلمها الناصر الفرنجة سنة (641 هـ) ثم عادت إلى المسلمين عام (642 هـ) على يد الخوارزمية جند الملك نجم الدين أيوب، وقد دخلت القدس في حوزة المماليك سنة (651 هـ) إلى (922 هـ) حيث دخلت تحت حكم الأتراك، وفي أواخر عهد الأتراك كثرت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ثم غادر الإنجليز القدس سنة (1948 م) وتركوها لليهود، وكانت مقسمة بينهم وبين المسلمين وأكثرها لليهود.
"الأقصى ميزان حال الأمة؛ فإذا كانت الأمة في عافيتها ووحدتها وقوتها كان الأقصى معززا مكرما بيد المسلمين، وإذا كان العكس انتزع من أيدي المسلمين ليردهم الله تعالى إلى مصدر عزهم وتعود لهم وحدتهم المفقودة"
الميزان الحقيقي
وكأن الأقصى ميزان حال الأمة؛ فإذا كانت الأمة في عافيتها ووحدتها وقوتها كان الأقصى معززا مكرما بيد المسلمين، وإذا كان العكس انتزع من أيدي المسلمين ليردهم الله تعالى إلى مصدر عزهم وتعود لهم وحدتهم المفقودة، وتتهيأ لهم الظروف لإصلاح أحوالهم ولم شتات أمرهم ومقارعة عدوهم مرة أخرى عندها تكون الغلبة لهم ويعود الأقصى إلى أيديهم.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)، (رواه ابن ماجه في سننه).
ونقض العهد هو في تضييع شرع الله، والحكم بغير ما أنزل الله وموالاة أعداء الله ورهن مقدرات الأمة بيد الأعداء والتنازع الذي يؤدي إلى التفرق والتشتت: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال:46].
وقد اختار الله تعالى أن يكون ضياع الأقصى والقدس عقوبة على نقض الأمة لعهدها مع الله؛ لمكانة هذه المنطقة ومكانة القدس في القلوب، وتوسطها للعالم الإسلامي؛ حتى تكون سبيلا للوحدة عند تحريرها وإنقاذها من براثن الاحتلال. بل لعل الحكمة الإلهية في جعلها بيد أشد الناس عداوة للذين آمنوا أن تستعد الأمة كلها لذلك، وأن يكون ذلك ادعى إلى دقة الإعداد والاستعداد، بل إلى توحيد الأمة؛ لأن الهدف كبير جدا والعدو قوي جدا ولا ينفع مقاتلته إلا من خلال استخدام كل قوة الأمة المادية والمعنوية في الإعداد للمعركة الفاصلة.
"كيف نريد دفع قوى البغي المتآمرة على الأمة وعلى أعز مقدساتها بالاستنكار والتهديد والوعيد والشكوى إلى المؤسسات الدولية؟! بل هو الاستعداد للمعركة الفاصلة بين الحق والباطل لتحقيق موعود الله"
ونلحظ هنا أن كل قوى الاستكبار العالمي قد وقفت مع دولة الاحتلال الباغية والمحتلة لأرض المسلمين، والمدنسة لمقدساتهم؛ ليعلم المسلمون أن الأمر جد ولا يصلح له إلا تجريد كل قوتهم لتحقيق النصر الموعود والمنشود. فكيف نريد دفع قوى البغي المتآمرة على الأمة وعلى أعز مقدساتها بالاستنكار والتهديد والوعيد والشكوى إلى المؤسسات الدولية؟! بل هو الاستعداد للمعركة الفاصلة بين الحق والباطل لتحقيق موعود الله في سورة الإسراء {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيرا} [الإسراء:7].
كما نلحظ أن دول الطوق وما حولها المحيطة بفلسطين قد شغلت بفتن داخلية تشغلها عن قضية الأقصى وبيت المقدس، وأنها عندما حاولت شعوبها التخلص من الظلم والقيود التي تكبلها وتمنعها من البناء الحضاري الممهد لمجد جديد للأمة تم إحباط هذا التحرك (الربيع العربي) بما يسمى بالثورة المضادة أو بإثارة الفتن الداخلية التي تستهلك طاقة الأمة وتدفع شعوبها إلى الاقتتال الداخلي بما يحقق أكبر قدر ممكن من التعطيل والإعاقة ومنع الأمة من التوحد في الهدف وخوض معركتها المصيرية مع بقايا الاستعمار في بيت المقدس وتحرير الأقصى من دنس الصهاينة.
باختصار إذا أردت أن تعرف حال الأمة هل هو بخير أم لا؟ فانظر إلى القدس وانظر إلى الأقصى، فإن كان معززا مكرما بيد المسلمين فالأمة بخير. وإن كان الأقصى والقدس في الأسر والذل وتحت حراب الاحتلال، وتدنسه أقدام الغزاة من الكفرة والمجرمين، فاعلم أن حال الأمة ليس بخير وأنها تعاني من الأمراض والأسقام وبحاجة إلى مشروع للإصلاح والاستنقاذ كمشروع صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.