شهدت الفترة الماضية من تطورات الحالة السياسية والحركية، على مستوى المشروع الإسلامي، بمختلف ألوان الطيف الفكري والتنظيمي، بعض الظواهر السلبية التي أدت إليها المشكلات التي رافقت الارتكاسات المسماة خطأ بـ"الثورات المضادة"، التي تدافعت في مرحلة ما بعد نجاح ثورات الربيع العربي في الإطاحة ببعض رؤوس الأنظمة الحاكمة في عالمنا العربي.
ومن بين هذه المشكلات تغليب القيمي بحيث يطغى على كل ما عداه، بشكل ينقلب إلى حالة من الشطط، بحيث يقود إلى حالة من التغييب التي تؤدي بدورها إلى شيء غير يسير من سوء تقدير الواقع، في ظل "الاختفاء" العمدي حتى ولو كان لا إرادي، الذي يقوم به البعض، للكثير من حقائق الأمور والتطورات التي تتم من حوله.
مبدئيًّا، يجب علينا تحرير أحد المفاهيم المهمة التي يتم استخدامها في الوقت الراهن، من دون تفكير فيه، مما أدى إلى التباسات عدة، وتكريس مفاهيم خاطئة، ونحن متفقون أن المشكلات المفاهيمية، هي أخطر ما يمكن أن تقع فيه الحركة الإسلامية، ولاسيما في أوقات الأزمة، كما هو الحال في وقتنا الراهن.
وبشكل عام؛ فإن البعض يستخدم بعض المصطلحات من دون التدقيق فيها، قد يكون ذلك بسبب النقل غير الرشيد، أو ضعف الخبرة، أو ما شابه؛ حيث إن المصطلح –أي مصطلح– إنما هو عبارة عن مجموعة الدلالات التي تجتمع فيما بينها للتأسيس لمفهوم معيَّن يُعبِّر عن هذه الدلالات مجتمعةً، تنطبق على المعنى الخاص بهذا المفهوم.
أهم المصطلحات الخاطئة التي يستخدمها البعض في هذه المرحلة، وفق هذه الحالة، هو مصطلح "الثورة المضادة"، وهو مصطلح متناقض في ذاته.
"مصطلح الثورة يرتبط بحراك شعبي أو جماهيري واسع النطاق، للمطالبة بحقوق الناس، والتصدي لمظالم الحاكم الفاسد المستبد"
فمصطلح "الثورة" أصلاً من ضمن ما عُبِّئ به من دلالات عبر التاريخ؛ أنه غالبًا ما يرتبط بحراك شعبي أو جماهيري واسع النطاق، للمطالبة بحقوق الناس، والتصدي لمظالم الحاكم الفاسد المستبد.
ومن ثَمَّ؛ فلا معنى لمصطلح "الثورة المضادة" هذا، فكيف يمكن توصيف ما يقوم به الحاكم لإجهاض هذه الثورات؛ بأنه "ثورة" بدوره، حتى ولو كانت "مضادة"؟!.
بهذا المنطق؛ فإن استخدام هذا المصطلح من أنصار الحركة الاحتجاجية أعطى الكثير من "الأخلاقية" لتصرفات الحُكَّام والأنظمة الظالمة الذي قامت "الثورة" عليها بسبب انتهاكاتها لحقوق الشعوب، وتجعل هذه الأنظمة وحكامها، تبدو وكأنها تستعيد "حقوقها" من الشعوب، وهو ما يكسِب أصحاب "الثورات المضادة" –مع تحفظنا طبعًا– الشرعية من جانب أصحاب الثورة الأصلية أنفسهم.
وهو أمر غير منفصل عن سياق الحديث في هذا الموضع، والذي نخص فيه مشكلة غياب الواقعية التي سبق أن تناولناها في مواضع سابقة، في التعامل، وهي مشكلة عدم فهم الخصم، وتوصيفه بشكل صحيح، ومن بين ذلك عدم الاعتراف بواقع الخصم، وعناصر القوة التي يرتكن إليها.
فمن خلال فحص عميق للتيارات فكرية وحركية داخل الحركة الإسلامية والإخوان المسلمين على وجه الخصوص، كما في مصر؛ تجد هذا المبدأ عند كثيرين، وخصوصًا بين الشباب الذي نشأ نشأةً تربوية ودعوية، بعيدًا عن الاحترافية السياسية المطلوبة للمرحلة، بسبب طغيان الجانب الدعوي والمجتمعي على ما عداه، في العقود التي سبقت الربيع العربي.
ينطلق هؤلاء – على سبيل المثال – من مبدأ: أنا أرفض الانقلاب (انقلاب يوليو 2013م في مصر)؛ فلا أرى الخصوم، ولا أضع قوتهم وقدراتهم في حسابات الحركة والفعل، أو: "هم ظالمون؛ إذن هم غير موجودين"!.
وهذا خطأ بالمطلق، وليس من الحكمة في شيء، ويخالف أبسط قوانين التدافُع التي وضعها الله سبحانه وتعالى في خلقه، وفي عمرانه، والتي تقوم على أساس معرفة الإنسان بهذا الذي يتدافع ضده، وكيف يحدث هذا التدافُع وآلياته، وبالتالي؛ فإن تجاهله يقود إلى الفشل.
"الصواب هو الاعتراف بالخصم، وبقوته، وفهمه، من خلال الفحص الدقيق، من أجل وضع قدراته في حسابات الفعل والحركة"
والصواب هو الاعتراف بالخصم، وبقوته، وفهمه، من خلال الفحص الدقيق، من أجل وضع قدراته في حسابات الفعل والحركة، فلن يسقط الانقلاب لمجرد أننا –باعتبارنا أصحاب الحق وكذا– نرفضه.. إطلاقًا، بل إن رسم الخطط بناء على هكذا تصور خاطئ؛ أمر قد يصل إلى مستوى الظلم والإجرام، وخصوصًا من جانب من لديهم الرؤية، ولا يقومون بتنوير الصف؛ لأن ذلك سيترتب عليه خسائر فادحة في مستويات معينة من المواجهة.
وأبرز دليل على أن ذلك التعامل بناء على هذا التصور، أمرٌ خاطئ، ما جاء في الممارسة النبوية، فالنبي الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بُعِثَ بالحق ذاته، ولكي يتمم مكارم الأخلاق، ولا توجد قيم أعظم مما بُعِثَ الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وبرغم ذلك كان شديد الواقعية في التعامل مع خصومه وتقدير قوتهم.
وإلا ما كان "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، قد أمر بأصحابه بالهجرة أكثر من مرة، وما كان قد استجار "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بالمطعم بن عُدي، وهو عائد من الطائف، بعد دعوته قبيلة بني ثقيف، وما لاقاه من عَنَتٍ هناك، فأجاره المطعم، ودخل "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، مكة المكرمة في حمايته وحماية أبنائه.
وفي موقف آخر؛ فإن الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، لم يهاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، إلا بعدما ضمن حماية وعصبية تمكنه من مواجهة خصومه من مشركي مكة والعرب الذين يعادونه، فهو أولاً قد اعترف بقوة خصومه، وثانيًا قام بالبحث عن قوة أخرى توازن قوة هؤلاء الخصوم، مما يمكنه من الاستمرار في الدعوة إلى دين الله تعالى، وحماية دولة الإسلام الوليدة.
"أن ينطلق المسلم الحركي صاحب الرسالة، من منطق رفض القوة لو كانت ظالمة؛ فلا يضعها في حساباته الحركية؛ فهذا جهل وظلم"
الأهم من ذلك، أن الله تعالى لم يدعُ نبيه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، إلى الارتكان على الدعم الإلهي المطلق له؛ كلا؛ فلقد شاءت حكمة المولى عز وجل، أن يتم ذلك كله بأسباب الدنيا وميزان التدافع الذي خلقه فيها، بعيدًا عن القدرة الإلهية المطلقة، والتي بطبيعة الحال؛ لو كان منحها لنبيه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"؛ فإنه لم يكن المسلمون، في المراحل التاريخية التالية؛ قد تعلموا شيئًا من فترة البعثة، وبالتالي؛ لم يكونوا ليقوموا على أمر أمانة التكليف التي أوكلها الله تعالى للأمة، بالشكل السليم الصحيح، الذي يحقق سنن الله تعالى ويتماشى معها.
وهكذا؛ فإنه يمكن رفض منطق القوة الظالمة من زاوية قيمية، فهذا لازم وحق وواجب، لكن أن ينطلق المسلم الحركي صاحب الرسالة، من منطق رفض القوة لو كانت ظالمة؛ فلا يضعها في حساباته الحركية؛ فهذا جهل وظلم، وإجرام، لما سوف يترتب عليه موت بشر، وهدم عمران بلا طائل؛ بداعي التمسك بالقيم والمبادئ.