الكاشفة.. هكذا هي أحداث انتفاضة القدس الثالثة التي اندلعت آوارها في وجه المحتل الصهيوني الغاصب وقطعان مستوطنيه؛ حيث إنها فرزت وكشفت مواقف الجميع على حقيقتها، وحققت الفرقان المبين ما بين الحق وأنصاره ودعاته، وبين الباطل والاستسلام، وأنصارهما ودعاتهما.. كشفت كل أصحاب العمائم والرُّتَب والمناصب والنياشين.. كشفت المُدَّعين، وأوضحت المناضلين رأي العَيْن، أمام العالم كله.
ولعل في صورة الطفلة الفلسطينية التي رجمت الشيطان الصهيوني بحجرها واختبأت تضحك منه ومن ضعفه وغبائه، وفي صورة الفتاتَيْن الفلسطينيتَيْن اللتَيْن تتقاسمان الأحجار التي سوف ترجم بها جنود إبليس الآخرين، وكأنهما تتقاسمان حلوى العيد، وفي صورة الجندي الصهيوني المختبئ في جحر القمامة خوفًا من المقاومين؛ لعل في هذه الصور كلها ما يدل على تهافت عدونا، وتفاهته وضعفه، وأن إرادة الشعوب أقوى من أي سجَّان، ومن أي سلاح، وأنه فقط كل ما ينقصنا هو حزم الإرادة والانطلاق في المواجهة.
"إرادة الشعوب أقوى من أي سجَّان، ومن أي سلاح، وأنه فقط كل ما ينقصها هو حزم الإرادة والانطلاق في المواجهة"
بدأت انتفاضة القدس، ولا راد لها؛ لأنها قضاء إلهي، ومعبِّر ومظهر شديد الأهمية عن قانون مهم من قوانين العمران والتدافع في الخلق الإلهي، ما بين الحق والباطل، والعدل والظلم، وهو قانون نافذ إلى يوم القيامة.
هذه الحالة تفرض علينا البحث عن مختلف جوانبها، باعتبار أن التركيز على جانب واحد، قد يقود إلى بعض الفشل النفسي، ومن ثَمَّ فيما يتعلق بالتفاعل مع الحدث، وذلك حتى نصل انطلاقًا من مواكب الشهداء التي نراها تترى كل يوم، إلى بشائر النصر؛ فتهدأ النفوس، وتفعمها الثقة، ولا يبقى في الصدور أي شيء من حزن أو وهن تجاه ما يجري.
لنقارن بين بعض العناوين.. حتى مساء السبت العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر، ارتقى في أحداث انتفاضة القدس الجديدة، بضعٌ وعشرون شهيدًا، ومئات المصابين، واقتحمت قوات الاحتلال الغاشمة المستشفيات بحثًا عن المطلوبين، والسلطة الفلسطينية تؤكد أنها سوف تبذل كل ما بوسعها لإحباط الانتفاضة، وحركة "فتح" تعلن أنها لن تشارك في الانتفاضة الجديدة.
ولكن في المقابل؟!.. بن كسبيت، المحلل الأهم في المعاريف وغيرها من صحف الكيان الصهيوني يقول: ألسنة اللهب تزداد اشتعالاً: الكارثة.. أو الانفصال.. ويدعو إلى الانسحاب من الضفة الغربية!!.. أما ناحوم برنياع فيقول في اليديعوت أحرونوت إن هناك "تسونامي" من العمليات يضرب "إسرائيل"، ويؤكد على أهمية إعطاء الفلسطينيين أملاً، لكي تكون أمام "إسرائيل" فرصة للاستقرار!..
"إنهم يألمون كما تألمون، ولكنهم لا يرجون من الله ما ترجون، هكذا يقول لنا رب العزة سبحانه في قرآنه العزيز، وهكذا بالضبط هو الإحساس الذي يصل إليه من يقرأ ما يكتبه الصهاينة ويصرحون به"
يقول برنياع ساخرًا من حكومته العاجزة بأجهزتها وجيوشها: "حيال الموجة الحالية يطرح وزراء حكومة "إسرائيل" رؤيا واحدة: مزيدًا من التشديد للعقاب الشخصي والجماعي، قمع السكان الفلسطينيين حتى التراب، وهم يؤمنون بأن اليأس يمكن الانتصار عليه بمزيد من اليأس، وأن التمرد يمكن كسره بعقوبات السجن، بجبايات الضريبة وبالغرامات التعسفية".
إنهم يألمون كما تألمون، ولكنهم لا يرجون من الله ما ترجون، هكذا يقول لنا رب العزة سبحانه في قرآنه العزيز، وهكذا بالضبط هو الإحساس الذي يصل إليه من يقرأ ما كتبه برنياع عن عمليات المقاومة التي راح ضحيتها مستوطنون وضباط في المخابرات الصهيونية؛ حيث إن الأمر مروع على نفسية هذا الكاتب.
أما يعقوب عميدرور؛ فلسان حاله يقول لحكومته "ريحوا حالكم؛ فلن يجدي العنف مع الفلسطينيين"، فكتب في "يسرائيل هايوم"، يقول: "القوة المفرطة لن تكبح جماح العنف الفلسطيني".
ويضيف أن الأحداث التي وقعت في عيد العُرش اليهودي وما بعده، تتطلب "مبادرة سياسية شجاعة وقيادة مبادرة لوقف اليأس الذي يتسبب بالقتل".
هذه الكلمات توازن وتفوق كفة أي وهن قد يصيب المرء وهو يطالع مواكب الشهداء، بل إنه يشعر معها بسعادة غامرة، فقد نالوا هم الشهادة وجنات الله عز وجل، بينما دماؤهم لم تذهب في الدنيا هباءً.. كل قطرة دماء سالت منهم، وكل حبة عرق سالت من جبين مناضل أو مرابطة في الأقصى؛ تؤتي أُكُلها.
الصهاينة – ومن ذكرناهم بأعلى أولاً هم ليسوا باستثناء؛ بل يعبرون عن شريحة كبيرة من الرأي العام الصهيوني، وثانيًا بعضهم كان من قادة جيش الاحتلال وأجهزة الأمن الصهيونية – يدعون لرفع الظلم واليأس – كما يسمونه – عن الفلسطينيين، وإيجاد حلٍّ، حتى يستطيعوا العيش!..
"أي انتصار وأية بشائر تفوق أن يقول مركز دراسات صهيوني إن ثمانين بالمائة من اليهود في الكيان الصهيوني، يشعرون بالخوف على حياتهم؟!"
أي انتصار وأية بشائر تفوق أن يقول مركز دراسات صهيوني إن ثمانين بالمائة من اليهود في الكيان الصهيوني، يشعرون بالخوف على حياتهم؟!..
كل ذلك وغيره، إنما هو علامات من علامات نصر الله تعالى الذي وعد به عباده المؤمنين، فما يجري في القدس والضفة وعموم فلسطين، هو سُنَّة ربانية، ذكرها الله تعالى في قرآنه العزيز.
يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [سُورة "الروم"].. ويقول كذلك: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [سُورة "الصَّف"].
وفي سُورة "محمد" يضع رب العزة سبحانه شرطَيْن لذلك النصر، ولتثبيت الأقدام في الميدان، الأول الإيمان، كما في آية "الرُّوم"، والثاني، هو نصر الله تعالى، والذي يأتي بإعلاء كلمته واتباع منهجه، والجهاد لأجله، فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)}.
إذًا؛ الأمور بسيطة في وضوحها، عظيمة في محتواها وشأنها، الفلسطينيون ينتصرون بحجارتهم وسكاكينهم البسيطة، على أضخم آلة عسكرية في الشرق الأوسط، والتي تفوق شراسة جنودها، شراسة الحيوانات في الأدغال المتوحشة، ولكن ها هي هذه الأدوات البسيطة، أجبرت الجنود الصهاينة على الاختباء في صفائح القمامة.. بالتأكيد هذه المظاهر من بشريات النصر وتثبيت النفوس والأقدام.
وفي الأخير؛ فإن أصدق ما يصدر عنك، هو ما يقوله الخصوم، فنختم بعبارة قالها مصدر عسكري صهيوني، يشير فيها إلى أن ما يجري مختلف.. مختلف تمامًا؛ فيقول: "واضح لنا أننا لسنا في الوضع الذي كنا فيه قبل أسبوع. كانت لدينا موجات عنف معينة في السنوات الأخيرة، جاءت وذهبت. يُحتمل جدًّا أن تكون الموجة الحالية قصة مختلفة".. بالفعل إنها قصة مختلفة.. هي قصة انتفاضة القدس هذه المرة!..