في هذا العصر الذي نعيش تزداد أهمية خلق التثبت والتبيّن، وتعظم الحاجة إليه، لأنَّنا في زمن كثرت فيه الفتن، واضطربت الأحوال، واختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب عند كثير من الناس، وقد نبّه القرآن الكريم وحذّر من عدم التثبت والتبيّن في الأخبار سواء في النقل أو التلقي، فقال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ}. [الحجرات: 6]. في قراءة الجمهور (فتبينوا) من التبين، وهو التأمل والتعرّف والتفحّص، وفي قراءة حمزة والكسائي: (فتَثبَّتوا)، من التثبّت، وهو الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر.
قال الشيخ عبد الرّحمن السعدي في تفسيره: "من الغلط الفاحش الخَطِر؛ قبول قول الناس بعضِهم في بعض، ثم يبني عليه السامع حُبًّا وبغضًا ومدحًا وذمًا، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أمورًا لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنمِّيَت بالكذب والزور، وخصوصًا مَن عُرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبت والتحرّز وعدم التسرّع، وبهذا يُعرف دين العبد ورزانته وعقله".
إنَّ التثبّت عند الأخ المسلم الصادق يسمح له بأن يُحكِّم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهي ركن من أركان الحكمة، بخلاف العجلة فإنّها تعرّضه لكثير من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثمّ تعرّضه للتخلف من حيث يريد السَّبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرّضه للتخلّف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها.
"الداعية إلى اللَّه إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبّر الأمور التي تعرض له، فإذا كانت رشداً، وحقاً، وصواباً فليمض، وإذا كانت غيَّا، وضلالاً، وظنًّا خاطئاً، فليقف ولينتهِ حتى يتضح له الحق"
والمشاهَد والواقع أنَّ عدم التثبت وعدم التأني يؤدِّيان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبراً، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرّفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو مُحرّفاً، أو مزوَّراً، أو مبالغاً فيه، أو مراداً به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته.
ومن الأساليب التي تقودنا إلى خلق التثبّت والتأني في الأحكام:
• تقوية ملكة التقوى والمراقبة لله سبحانه: فإن تأكدت في النفس، فسوف تحمل صاحبها حملاً على التأني والتروي والإنصاف، ونقل الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقص، بل ستكون سبباً في نور القلب، ونفاذ البصيرة كما قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، [الأنفال:29].
• التأسي بالنماذج التي ذكرت في كتاب الله وسنة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم؛ كقصة أسامة بن زيد مع الجهنى في سورة النساء، وحادثة الإفك في سورة النور، وقصة داود مع الخصمين في سورة النمل.
• تقدير العواقب المترتبة على ترك التثبت أو التبين في الدنيا والآخرة، فإن هذا التقدير من شأنه أن يبعث الإنسان من داخله ويحمله على التروي أو التأني أو التريث.
والداعية إلى اللَّه تعالى إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبّر الأمور التي تعرض له، ويواجهها، فإذا كانت رشداً، وحقاً، وصواباً فليمض، وإذا كانت غيَّا، وضلالاً، وظنًّا خاطئاً، فليقف ولينتهِ حتى يتضح له الحق.
• التعويد على إحسان الظنّ بالمسلمين إلاّ أن يقع منهم ما يوجب غير هذا، قال الله تعالى: {لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}، [النور:12].