الحديث إلى الآخرين.. ثرثرة أم فكرة ذات حدين؟!

الرئيسية » خواطر تربوية » الحديث إلى الآخرين.. ثرثرة أم فكرة ذات حدين؟!
حديث19

"يغسل القلب" هكذا يعتقد البسطاء الذين لم تدفعهم الحياة رغماً عن إرادتهم إلى أي مداخل المتاهة بعد.

"يفتح الأبواب المغلقة" هذا ما يردده المعنيون بالانفتاح –غالباً– والذين لا يرضيهم الأفق المحدود.

"... (صمتٌ ينتهي إلى التنهّد)" وهذا عادة رأي الذين مروا بتجارب أليمة سببها جلسة بوح تلقائية.

تحت واحد من هذه العناوين يمكنني تصنيف كل الإجابات التي سمعتها من الناس حين سألتهم: "ما رأيك في الفضفضة التلقائية إلى من حولك؟" هي فضفضة مع أنني أسميها الحديث مع الآخرين وإليهم!

مجرد ثرثرة أم فكرة ذات حدين:

تجريب البوح بأفكارك، مشاريعك، آمالك، تخوّفاتك، آلامك وهمومك الثقيلة للآخرين، قد تعتبرها مجرد ثرثرة عابرة، أو شيء خفيف تقوم به، بينما هي أكبر من ذلك بكثير، إن أغفلت الجانب السلبي منها كأن يؤذيك الآخرون بما قد يعرفونه عنك ومنك في لحظة وديّة، قد يسرقون أفكارك ويحاربونك بمبدئك، وقد يتلاعبون بعواطفك من حيث لا تدري... إلى آخر قائمة الأذى الممكن.

"الكثير من العقبات ستتلاشى، وأغلب المشاكل لن تنشأ أصلاً، والكثير من الآفاق ستتجلى.. فقط إذا وجد أحدنا من يستمع إليه!"

يفسر الأمر غالباً بأنه مجرد ثرثرة وتضييع للوقت فيما لن يفيد، أو أن الآخرين سيؤذوننا بما يعرفونه عنا، سيقف أي إنسان عن البوح لأيٍّ كان، حتى إذا كان أقرب البشر إليه، وعليه فإنه بالرغم من أن الحديث للآخرين فكرة قد تحمل طرفاً حاداً، إلا أنني قبل أن أستسلم للتفكير فيه سأنظر إلى الجانب الذي يمكنه أن يثمر، كأن تصبح فكرتك أكثر قوة، أو أن ترتاح روحك وتزهر، أو كأن يفتح أمامك باب مغلق.

يقال: إن كل شيء تكتمه في قلبك سيأخذ من عافيتك، لذلك أحصِ الإيجابيات ثم جرّب البوح.

أنا لا أدعو بحال من الأحوال إلى الحديث عن الآخرين، الخصوصيات، النميمة، وتدخل الشخص فيما لا يعنيه. بل أتكلم عن الحديث ببساطة المعنى الذي يحمله المصطلح، تتحدث وكأنك تفضّ عنك عقدة، وتزيح ستاراً، أو تفتح باباً، دون أن تتوقع أن يقابل أحدهم تلقائيتك وحسن نيتك هذه بردة فعل سيئة.

حسب رأي الباحثين في النفس البشرية، فإن الكثير من العقبات ستتلاشى، وإن أغلب المشاكل لن تنشأ أصلاً، وإن الكثير من الآفاق ستتجلى... فقط إذا وجد أحدنا من يستمع إليه، ويواسيه على الأقل، أو في أفضل الحالات يرشده ويعينه.

"معلش – بسيطة – بتهون"

كلمة لا يمكنها أن تأخذ الكثير من الوقت، ولا تستهلك الطاقة، ولا تستفز عدداً كبيراً من العضلات لإنجازها، قليل من العاطفة فقط، وكلمة واحدة، وربما تصحبها رفة عين... يمكنها أن تعيد الانتعاش والطاقة لعقل يوشك أن يتوقف، يمكنها أيضاً أن تفتح أفقاً لفكرة تكاد أن تولد لكنها تحتاج حقنة مساعدة، حتى إنها قد تمثل جلسة مساج لقلب كسير أو روح تحترق.

"كل الأشياء المتعلقة بالإنسان، معقدة، مركبة ومتقلبة، تماماً كطبيعة التكوين الإنساني، تتأثر بعوامل، تتغير تبعاً لظروف، وقد تدهشنا أحياناً"

وقت الحديث، هدفه، الطريقة المناسبة، أسلوبه، نبرة الصوت، المكان، الأجواء، وقبل ذلك كله، الشخوص والأطراف. غالباً يكون مطلوباً مني فقط أن أنتبه لهذه الأشياء، ربما تزيد أنت أشياء أخرى، أو تنقص منها البعض حتى، لكن في المجمل فإن التجريب لن يضرّ، كما أنه لا يمكن أن يكون حكماً نهائياً، فلا يمكنني أن أتوقع ما أريده.

وعليّ أن أدرك أن كل الأشياء المتعلقة بالإنسان، معقّدة، مركّبة ومتقلّبة، تماماً كطبيعة التكوين الإنساني، تتأثر بعوامل، تتغير تبعاً لظروف، وقد تدهشنا أحياناً.

الآخرون هم الجحيم:

من أية زاوية تنظر إلى هذه الجملة ستتساءل، سواء كان عن المعنى الذي يقصده قائلها، أو أبعادها، أو معرض إلقائها... إلخ. لكنها وبالمطلق جملة تؤذي المشاعر الإنسانية، فالآخرون ليسوا جحيماً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً. والإنسان للإنسان فنحن أمة لم تعدم منابع الخير، مهما سيطر الشرّ على الواجهة وامتلك نوافذها.

"الآخرون ليسوا جحيماً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً. والإنسان للإنسان فنحن أمة لم تعدم منابع الخير، مهما سيطر الشرّ على الواجهة وامتلك نوافذها"

في دراسة موثقة ثبت أن البوح عن مكنونات النفس بالكتابة فكرة مجدية لعلاج الاكتئاب والتوتر والقلق والكثير من المشاكل النفسية وقد يفاجئك أنها أيضاً تحل جزءاً لا بأس به من مشاكل عضوية.

هروباً من الأذى الذي يتسبب به البوح للآخرين، فإن البعض يرى الحل في أن تصبح الفضفضة إن كانت حلاً وحيداً فلتكن مع نفسك فعلى الأقل: "عندما تتحدث لنفسك فإنك تتحدث مع شخص يفهمك ولن يؤذيك غالباً" وإن كنتَ تنشد الحل النهائي وفوقه الأجر والثواب: تحدث مع ربّك واحك له كل ما يشغل فكرك ويؤرقك. لن تندم، فلا ترض أن تكون واهماً.

وفي كل الأحوال إن لم يلهمك البوح وينقذك ويغذي رأيك، فلن يكون مجرد ثرثرة عابرة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة فلسطينية من قطاع غزة، تحمل شهادة البكالوريوس في علوم المكتبات والمعلومات، وعدة شهادات معتمدة في اللغات والإعلام والتكنولوجيا. عملت مع عدة قنوات فضائية: الأقصى، القدس، الأونروا، الكتاب. وتعمل حالياً في مقابلة وتحرير المخطوطات، كتابة القصص والسيناريو، و التدريب على فنون الكتابة الإبداعية. كاتبة بشكل دائم لمجلة الشباب - قُطاع غزة، وموقع بصائر الإلكتروني. وعضو هيئة تحرير المجلة الرسمية لوزارة الثقافة بغزة - مجلة مدارات، وعضو المجلس الشوري الشبابي في الوزارة. صدر لها كتابان أدبيان: (وطن تدفأ بالقصيد - شعر) و (في ثنية ضفيرة - حكائيات ورسائل).

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …