لم يكُن من المستغرَب قرار الحكومة الصهيونية بحظر الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948م، والذي يقوده الشيخ رائد صلاح، بعد أن أصبح الشيخ رائد صلاح ومؤسسات الحركة، أحد أهم عوامل زعزعة مخططات الاحتلال الصهيوني في القدس المحتلة، وإزاء الأقصى السليب.
ففي ظل التصعيد الكبير الراهن في أعمال الانتفاضة الفلسطينية، انتفاضة القدس التي هددت نظرية الأمن الصهيونية في مقتل، وعجْز قوات الأمن والجيش الصهيوني عن التصدي لعمليات الشباب الفلسطيني الباسل، والتي طالت كل أركان الكيان الصهيوني؛ كان ولابد من الانتقال من جانب حكومة الاحتلال إلى خطوة أبعد في محاولة منها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد أن وصلت تضاعيف الانتفاضة إلى كل أرجاء العالم، من تعاطف دولي، ومواقف رسمية وشعبية مناهضة للكيان الصهيوني.
كما أنه ليس القرار بمستغرَب، بل كان متوقعًا في ظل الهجمة الجديدة على الحركة الإسلامية، والتي تصاعدت في أعقاب حوادث باريس الأخيرة، وقبلها التفجيرات التي وقعت في لبنان، وعملية الطائرة الروسية فوق سماء سيناء المصرية؛ حيث استغلت العديد من الأطراف، ومن بينها الحركة الصهيونية العالمية، هذه الأحداث من أجل تصعيد الحرب ضد الحركة الإسلامية، أيًّا كان لون طيفها السياسي.
"الشيخ رائد صلاح: هناك تنسيق أمريكي صهيوني، وأن هناك أطرافًا عربية كانت تتواصل مع الصهاينة من أجل أن تتخذ الحكومة الصهيونية هذا القرار"
ولعل فيما قاله شيخ الأقصى، الشيخ رائد صلاح، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مساء الثلاثاء، 17 تشرين الثاني/ نوفمبر، عقب قرار الحظر، ما يوضح ويجلي حقيقة الصورة؛ حيث أشار إلى أمور توضح أن الحظر ضمن استراتيجية وصورة أوسع وأكبر بكثير حتى من الحرب الصهيونية الحالية في مواجهة الانتفاضة.
صلاح أشار إلى أن الأمر أتى في إطار تنسيق أمريكي – "إسرائيلي"، وأن هناك أطرافًا عربية كانت تتواصل مع السلطات "الإسرائيلية"، من أجل أن تتخذ الحكومة الصهيونية هذا القرار، والذي كانت تدرسه منذ زمن طويل.
هذا جانب من الصورة، ولكن الأهم من ذلك، هو الحديث عن القرار نفسه، فالقرار يحظر جميع مؤسسات الحركة، ومن بينها مؤسسات إعلامية وخيرية، كانت هي تقريبًا الوحيدة التي تنقل لحظة بلحظة ما يجري في الأقصى وما حوله وفي القدس المحتلة، وكانت تقدم خدمات لنحو نصف مليون إنسان في فلسطين المحتلة عام 1948م، والقدس المحتلة.
وكانت هذه المؤسسات تقوم بدور كبير في إحياء التواصل بين الجمهور العربي في فلسطين المحتلة وبين القدس والحرم القدسي الشريف، من خلال أنشطة مكثفة، مثل مسيرات البيارق، ومصاطب العلم وغير ذلك.
"القرار الصهيوني فاشل، ولا يحقق الهدف منه في قمع إرادة الفلسطينيين، حتى في الشق الخاص بمحاربة الحركة الإسلامية كأحد أذرع أو أفرع الإخوان المسلمين"
حَظَر الكيان الاحتلال الغاصب كل ذلك على المستويين القانوني والإداري، ولكن هل يكفي ذلك؟!..
في حقيقة الأمر؛ فإنه – في أي مجال، وليس في المجال السياسي فحسب – فإن لكل إطار أدواته التي ينبغي أن تتوافر للتعامل معه، واستخدام الأدوات الخطأ لا يحقق الهدف، وهو ما فعله الكيان الصهيوني، ولكنهم ليسوا ملومين؛ حيث إنهم يفكرون بعقلية الأنظمة والحكومات القاصرة، ولا ينظرون للأمر في إطاره الاستراتيجي العام، وربما كان ذلك خطأً منهم تحت وطأة الضغوط الراهنة من جانب الرأي الداخلي، مع عدم فهم لعقلية الحركات الإسلامية الصحوية وآلياتها الحركية.
ففي الأول والأخير، تبقى الحركة الإسلامية، ومؤسساتها، إنما هي أطر إدارية، وواجهات طليعية، تقوم بأدوار محددة لها في إطار مشروع متكامل، ينطلق من منظومة من القيم والمبادئ والأفكار، ويسعى إلى تحقيق منظومة من الأهداف السامية، سعيًا إلى الغاية الرئيسية لكل فلسطيني وعربي ومسلم حر، وهو تحرير فلسطين، واستعادة الأقصى السليب.
أي أن الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة، ومؤسساتها، هي عبارة عن قناة قائمة لا تتحرك من تلقاء نفسها، وإنما هي أداة لتحقيق أهداف، وتحقيق أي هدف في المجالات الإنسانية بشكل عام، ومن بينها الأنشطة ذات الطابع السياسي والاجتماعي، لا يُشترط لتحقيقه أداة واحدة، ولا يوجد أمر يندرج في إطار العلوم الاجتماعية والإنسانيات، عبر التاريخ، ثبت أنه لا يوجد سوى أداة واحدة فقط للتعامل معه.
وهو أمر قائم في حالة حظر الحركة الإسلامية ومؤسساتها، فعلى سبيل المثال؛ كانت مسيرات البيارق أداة، ومهمة، لربط الجمهور العربي – بمسلميه ومسيحييه – في الداخل المحتل عام 1948م، بالقدس المحتلة والمسجد الأقصى، ولكن، هل هي الوسيلة الوحيدة لذلك؟!.. كلا بطبيعة الحال، فهناك الحركة الفردية، والمبادرات المؤسسية الأخرى، وهناك الجهود الذاتية، وغير ذلك من الأدوات، التي تتحرك من خلالها الفكرة، ولا يستطيع الاحتلال منعها.
فلا يملك الاحتلال تقييد يد عرب الداخل في الحركة تجاه القدس، ولا يملك أن يقوم مسلمون من خارج القدس وداخلها بالصلاة في الأقصى، ولا يمكن أن يقيد الناس عن رفع شعار "أولى القبلتين وثالث الحرمَيْن".
بنفس المنطق، مركز "كيوبرس" وموقع "فلسطينيو 48"، وهما جهتان إعلاميتان تابعتان للحركة الإسلامية، كانتا من أهم وسائل نقل التطورات داخل القدس المحتلة، وفي المسجد الأقصى، والتعبير عن معاناة المقدسيين، بالكلمة والصوت والصورة، ولكن – كذلك – هل هما الوسيلتان الوحيدتان لذلك؟!.. كلا؛ هناك التواصل الاجتماعي، وهناك مواقع أخرى تعمل، وتحمل نفس الفكرة، وهناك المبادرات الذاتية التي بات المقدسيون يجيدونها.
العمل الخيري الذي كانت تقوم به المؤسسات التابعة للحركة الإسلامية، مثل جمعيات "الحرم" و"المسرى" و"الإسراء"، وغيرها، بدورها يمكن أن يتم بطرق أخرى، من بينها دمج نشاطات هذه المؤسسات مع مؤسسات عربية أخرى في الداخل المحتل عام 1948م، أو من خلال الجهود الذاتية في الإطار التكافلي الذي تعرفه المجتمعات العربية والمسلمة بشكل عام.
"ما لا يدركه الصهاينة أن الحركة الإسلامية، في النهاية، هي عبارة عن فكرة، وتسعى إلى تحقيق منظومة من القيم والأهداف، والأفكار لا تموت، أما القيم والأهداف؛ فيمكن تكريسها وتحقيقها بألف صورة وصورة بخلاف الإطار المؤسسي"
إذًا القرار الصهيوني فاشل، ولا يحقق الهدف منه في قمع إرادة الفلسطينيين، حتى في الشق الخاص بمحاربة الحركة الإسلامية كأحد أذرع أو أفرع الإخوان المسلمين، التنظيم الوحيد الذي يحمل هموم الأمة وفق رؤية شاملة، وهو الجانب الإقليمي والدولي للقرار، والذي كشف عنه الشيخ رائد صلاح في مؤتمره الصحفي، فالإخوان المسلمون بدورهم، عبارة عن فكرة يعبِّر عنها تنظيم، وليس تنظيم يجمع بين أفراد مشترَكي الخلفية.
ما لا يدركه الصهاينة أن الحركة الإسلامية، في النهاية، هي عبارة عن فكرة، وتسعى إلى تحقيق منظومة من القيم والأهداف، والأفكار لا تموت، أما القيم والأهداف؛ فيمكن تكريسها وتحقيقها بألف صورة وصورة بخلاف الإطار المؤسسي.
ويبدو أن الصهاينة لم يدرسوا التاريخ جيدًا، فلم يحدث عبر التاريخ، أن استطاع نظام قمعي في قتل فكرة، حتى ولو وضع أصحابها خلف أسوار من نار؛ فسوف تتسرب هذه الفكرة من بين جدران النار، وتحيا وتنتشر، وليسألوا كل الطغاة عبر التاريخ؛ أين هم الآن؟، وأين الأفكار التي حاربوها!