انتفاضة القدس ومعركة القيمة والمعتقد

الرئيسية » ملفات خاصة » انتفاضة القدس » انتفاضة القدس ومعركة القيمة والمعتقد
انتفاضة القدس24

تُعتبر الأمور التأصيلية أو التأسيسية أهم من الأمور الحركية والإجراءات التنفيذية المتخذة على أرض الواقع؛ حيث إنها –الأمور التأسيسية والتأصيلية هذه– هي التي توجه العمل الحركي والتنفيذي، وتجعله إما ناجحًا أو فاشلاً.

ولذلك تكون هذه الأمور، أحد أهم الأهداف التي يضعها أي طرف سياسي في حساباته عندما يسعى إلى مواجهة مشكلة ما، باعتبار أن نقض المنطق الأخلاقي والأساس القيمي لها، يعني نقضها بالكامل، خصوصًا في الحالات التي يرتبط فيها الحدث بصراع عام؛ لها امتداداته الإقليمية والدولية، وتُعتبر القوة الناعمة أحد أبرز عوامل دعمه أو هدمه، في ظل ارتباطه بمعركة القيمة والمُعتقَد، والتي تُعتبر قلوب وعقول الجماهير، أحد أهم ساحاتها.

وفي حالة انتفاضة القدس، فقد كان لما حققته من نجاح في هذه الساحة، معركة القيمة والمُعتَقد، وبدأت في استقطاب الرأي العام الإقليمي والعالمي، بكل ما يعنيه ذلك من ألم وأذىً للكيان الصهيوني؛ فقد كان لابد من البحث في الأسس القيمية التي تقوم عليها الانتفاضة ومحاولة النيل منها.

في هذا الإطار، تتصاعد في وقتنا الراهن "نغمة" بعينها داخل الأوساط الصهيونية، وبعض الأوساط الإعلامية العربية، التي من المعروف تأييدها للكيان الصهيوني، وللمشروع الغربي في المنطقة، تتحدث عن "صراع الهمجية ضد "الحضارة" الذي تعبر عنه الانتفاضة؛ حيث دولة الاحتلال توضع ضمن إطار صورة ذهنية كـ"بلد متقدم وديمقراطي يخدم الحضارة الإنسانية من خلال المساهمة في بناء بنيان التقدم التقني والفكري"، تواجه "موجة إرهاب متوحشة تستخدم السكاكين" لهدم هذا البنيان الحضاري!

ومن بين مكونات ما يتم تلقينه للجمهور العام، أن العرب والمسلمين، بدلاً من أن يشاركوا في البنيان الحضاري الذي يبنيه الغرب، والكيان الصهيوني جزءٌ منه؛ فإنهم يعمدون إلى هدمه، وأن كل انشغالات العرب والمسلمين، ومن بينهم الفلسطينيون، إنما ترتبط بالصراع والقتل والحرب والدمار.

مبدئيًّا؛ فإن عدم موافقتك على شيء؛ لا يعني عدم وجوده، فالأمور السلبية قائمة، وهي إحدى سُنن الخلق الإلهي، والشر لابد منه لتمايز الخير، ولحصول قوى التدافع التي تضمن اتزان الخلق، إلى أن يشاء الله تعالى، وتنتهي الدنيا، وتبدأ حياة أخرى بمقاييس أخرى، وهو مبدأ ينطبق على قوى الخير، كما ينطبق على قوى الشر، بل هو أهم في حالة قوى الخير، فلو ساد الخير، من دون شر يتدافع ضده؛ سوف يفسد أصحاب الخيرية، وهو ما ينبئنا به التاريخ، وناقشناه في مواضع سابقة.

"خلق الله قوانين للتعامل مع الشر، ومع الأوضاع التي يكون فيها افتئات على حقوق فئة من البشر، أو يكون فيها جور وتخريب من مجموع بشري إزاء مجموع بشري آخر"

ولقد خلق الله تعالى قوانين للتعامل مع الشر، ومع الأوضاع التي يكون فيها هناك افتئات على حقوق فئة من البشر، أو يكون فيها جور وعنف وتخريب من مجموع بشري إزاء مجموع بشري آخر.

في هذا السياق؛ فإن الصراع سُنَّة كونية، وفي ديننا الحنيف؛ فإن الحرب والقتال أمور غير مرغوب فيها أو مطلوبة لذاتها، ولكن لابد منها، وفي القرآن الكريم هناك آيات فيها أن الله تعالى يكفي المؤمنين القتال؛ أي أن القتال غير مطلوب في حد ذاته، وأمر جهيم، لذلك يكفي الله تعالى عباده المؤمنين إياه قدر ما تريد المشيئة العليا؛ لابتلاء المؤمنين وتمحيص النفوس واختبارها، وغير ذلك مما في حكمة الخالق عز وجل، البالغة.

ومن بين ضرورات الصراع، تحقيق سُنَّة التدافع ضد المجرمين والقتلة والفسدة وغيرهم من الفئات غير الصالحة.

وللتأسيس والتأكيد؛ فإن القتال والجهاد أمران مختلفان تمامًا عن القتل، فالرسول الكريم "صلَّى الله عليه وسلَّم"، جاهد وقاتل مئات المرات؛ لكن الله تعالى لم يجرِ على يدَيْه الشريفتَيْن القتل، سوى مرة واحدة، وكانت بحق الله تعالى، والمتأمل في غزوات النبي "صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ يدرك ذلك.

ولو انتقلنا إلى مرحلة زمنية أبعد من دولة النبوة؛ فإن العالم لم يعرف إلى الآن دولة استقرارًا مثل الذي عرفه إبان دولة الخلافة العباسية، والتي أضافت وحدها، للحضارة الإنسانية الكثير، وحققت استقرار العالم القديم طيلة أكثر من 700 سنة ولما ضعفت؛ اختل استقرار العالم بالكامل؛ حيث سمح ضعف الدولة العباسية، بظهور الفوضى في أرجاء العالم القديم، وبدأت موجات المغول في الوصول إلى أوروبا نفسها، مع تحلل الكثير من الكيانات الصغيرة القديمة، إلى كيانات أخرى أضعف، وبدأت في التسبب في الفوضى على أطراف القارة الأوروبية.

وهذا نموذج فحسب، فهناك الكثير مما يخرج عن موضوع هذا الحيز، ولن نتكلم –كذلك– عن الإسهامات الحضارية للعلماء المسلمين، فهذه هناك موسوعات غربية نفسها تتحدث عنها.

فقط نؤكد أن كلنا نسعى إلى الحضارة، ونريد الأمن والاستقرار، والبناء، ولكن بعض الأسئلة مهمة هنا.. هل الفلسطينيون هم من احتلوا أرض اليهود؟.. ولو وسعنا الدائرة كما يفعل الخصوم: هل القوات العراقية أو الأفغانية هي التي تحتل الولايات المتحدة، أو أية دولة من دول حلف "الناتو"؟!.. ماذا عن دور الاستعمار من الأصل في تخلف وتفكيك الأمة؟!..

"أنا كمسلم عندما أدعم الانتفاضة الفلسطينية لا يعني أنني أستهدف المراكز الطبية في الغرب، التي تحارب السرطان، أو المراكز الثقافية والعلمية التي تطور الحاسب الآلي وتطبع الكتب وتخترع الأشياء المفيدة"

أنا كمسلم عندما أدعم الانتفاضة الفلسطينية، أو المقاومة في العراق إبان الاحتلال الأمريكي المباشر؛ لا يعني أنني أستهدف المراكز الطبية في الغرب، التي تحارب السرطان، أو المراكز الثقافية والعلمية التي تطور الحاسب الآلي وتطبع الكتب وتخترع الأشياء المفيدة، فهذه ممتلكاتي كمواطن في دولة الإنسانية الواسعة.

والمسلمون لا يؤيدون الإرهاب بالمفهوم أو التعريف الغربي له، فالغالبية الساحقة من العلماء المسلمين، تنكر على من يقوم بالإرهاب بالمفهوم الغربي، من جماعات العنف في العالم العربي والإسلامي، أو ما يفعلونه في بعض الأحيان في الغرب، كأن يستهدفوا أطفالاً أو مدارس أو مستشفيات أو ما شابه، في العمليات التي يقومون بها وكان آخرها ما جرى في فرنسا قبل بضعة أيام.

هذه الأمور يأباها الإسلام، والإسلام لا يدعو لذلك أبدًا، ولكن في فلسطين بالذات؛ الأمر واضح، فالصهاينة يحتلون فلسطين، وقتلوا شعبها، وشردوه، وفيما يخص حدث انتفاضة القدس؛ فهي لم تندلع إلا بعد دمرت قوات الاحتلال المسجد الأقصى بالمعنى الحرفي، وصور الزجاج المفتت والأبواب المدمرة موجودة وشاهدة، وقتلوا الأطفال والرضع حرقًّا، وحاولوا نزع النقاب عن العفيفات.

الذي فعل ذلك هو "الدولة" الصهيونية، وليس مواطنين مارقين كما يحلو لبعض المدافعين أن يقولوا؛ إن الدولة العبرية ديمقراطية وعادلة، وكذا، وأن المشكلة في اليمين المتطرف.. أليس اليمين المتطرف هذا، هو الذي يحكم؟!.. وهذه القوات التي قتلت الفتاة ذات النقاب، ودمرت الأقصى؟!.. أليست قوات الدولة؟!.. قوات نظامية تأخذ أوامرها من الحكومة الصهيونية، وليس من المستوطنين؟!..

وفيما لا يزال الاحتلال يقتل الأطفال، ويرفع الحاخامات عنهم الحرج بفتاوى القتل والإرهاب؛ فإن الشباب الفلسطيني لا يحمل سوى الحجارة وسكاكين المطبخ في وجه قوات احتلال مدججة بكل ألوان السلاح، تقتل فيه، وتدمر مقدساته، فهل المطلوب منه أن يصمت لئلا يُتهم بأنه يحارب "إسرائيل" المتحضرة"؟!..

وسؤال آخر لمنتقدي "وحشية" الانتفاضة و"وحشية" العرب وعدم انشغالهم بالبناء الحضاري وانشغالهم فقط بالقتل.. أين أنت من قتل الصهاينة للأطفال؟!.. ألم يحدث؟!.. أين أنت وماذا قلت عن "فتاوى" الحاخامات من قتل الأطفال والأغيار؟!.. فتاوى جديدة، وليست من ميراث التلمود المشؤوم.
وفي الدائرة الأوسع: هل كان الغرب حضاريًّا جدًّا وهو يقتل نصف مليون طفل عراقي بالحصار في التسعينيات، ومادلين أولبرايت تقف بكل قذارة مقززة لتقول إن الأمر يستحق؟!..

لا أحد من المسلمين يدعو لتفجير معامل "CDC" لبحوث الأمراض المعدية في أطلانطا، أو تدمير وكالة "ناسا"؛ لأنها ملكنا جميعًا كمواطنين عالميين؛ لكن العدل يقتضي القصاص من القتلة، والتدافع ضدهم، ولكن ملاحظة "خبيثة" هنا.. معامل أطلانطا التي تحارب الأوبئة، تحتفظ فيها الولايات المتحدة بعينات من البكتيريا والفيروسات التي تتسبب في أكثر أمراض العالم فتكًا، مثل الجدري المنقرض.. لماذا؟!.. لأغراض الحرب البيولوجية طبعًا!..

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …