من جمال اللغة العربية أن الكلام فيها قد يحمل على عدة وجوه، فيتزين في ذهن القارئ أو السامع معان عدة متنوعة، فكأنك في حديقة غنّاء مليئة بالأزهار والثمار؛ فحيثما نظرت وتأملت سررت وأعجبت وتذوقت.
والسامع لكلام الناس يرى أن هذا الكلام ليس محكماّ -أي يدل على معنى واحد فقط-، بل هناك جزء من الكلام يحتمل عدة معاني، فقد يُحمل على الخير وقد يحمل على الشر، ومن هنا تنبع المشكلات وينشأ سوء الظن وإثارة الفتن، ويستخدمه مثيرو القلاقل في تحقيق مآربهم وإيقاع العداوة بين الناس، وتحطيم الروابط بينهم.
ومجتمع الدعاة إلى الله يعتريهم ما يعتري البشر من نقص وعيب وغير ذلك، ومن ذلك سوء الظن وحمل كلام الآخرين على الشر، فقوة الروابط بين الدعاة تقود لتحقيق أهداف الدعاة دون أن يعطلها عداوة هنا وسوء فهم هناك، وليس من الحكمة وضع منظار أسود أمام العين فلا يفهم إلا المعنى السيء، ولا يفسر الكلام إلا على وجهه القبيح، بل على الداعية أن يحسن الظن بإخوانه وإلا قاد ذلك للتنازع المؤدي للفشل، فكم من دعوة سقطت وانفض عنها الناس بسبب تنازع أصحابها، وسوء ظنهم ببعضهم.
"مجتمع الدعاة إلى الله يعتريهم ما يعتري البشر من نقص وعيب وغير ذلك، ومن ذلك سوء الظن وحمل كلام الآخرين على الشر"
وهنا لابد من التنبيه إلى بعض الأمور المهمة في هذا الصدد:
1-حمل الكلام على أحسن وجه:
فقد روي عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه حين مرض أتاه بعض إخوانه يعوده، فقال له أحدهم: قوى الله ضعفك، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني، قال: والله ما أردت إلا الخير. فقال الإمام الشافعي: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير"، فانظر كيف ضرب الإمام الشافعي مثلاً عظيماً في حمل كلام الناس على الخير، وحتى وإن كان سُبَاباً أو اتهاماً، وهذا من فهمه لروح الإسلام ومقاصده العظيمة.
2- التماس العذر للآخرين:
فلعله نسي أو أخطأ في كلامه، أو لعله يقصد غيري، قال ابن سيرين رحمه الله: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرا لا أعرفه"، والمعلوم أن نفسية الإنسان تؤثر بشكل كبير على كلامه، فالغاضب وصاحب الحاجة قد يخرج منه كلام لا يقصد معناه الظاهر.
3- اترك النيات لله تعالى:
ومن راحة البال أن نترك النيات لله تعالى، فهي من خفايا النفس التي لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما تخفي الصدور، وعلينا الأخذ بظواهر الكلام والمعنى الجليُّ منه، فعن أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلى الْحُرَقَةِ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمّا غَشِينَاهُ قَالَ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، فَكَفَّ الأَنْصارِيُّ عَنْهُ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحي حَتّى قَتَلْتُهُ؛ فَلَمّا قَدِمْنَا، بَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقالَ: (يا أُسامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَما قَالَ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ، قُلْتُ كَانَ مُتَعَوِّذًا؛ فَما زَالَ يُكَرِّرُها حَتّى تَمَنَّيْتُ أَنّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ) [رواه البخاري]، وفي رواية قال: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا).
"لو دققنا بكل مستفز، أو صاحب خلق ضيق؛ لاستمر التنازع والتناحر بين الناس، ولكن في بعض الأحيان علينا الترفع عن اللغو والتغابي مع المخالفين إذا أخطؤوا"
4- التغابي عن جهل بعض الناس:
فلو دققنا بكل مستفز، أو صاحب خلق ضيق؛ لاستمر التنازع والتناحر بين الناس، ولكن في بعض الأحيان علينا الترفع عن اللغو والتغابي مع المخالفين إذا أخطؤوا، قال الشاعر:
لَيْسَ الغَبِيُّ بِسَيد في قَوْمِهِ لكنَّ سيِّد قومهِ المُتغابي
5- الحفاظ على العلاقات مقدمٌ على إثبات وجهات النظر والذات:
لذلك على الداعية الحصيف أن يحرص على الحق، وأن يتنازل في كلامه ورده من باب حفظ الود، وليس معنى ذلك التعامي عن الخطأ والسكوت عنه، بل معالجته بألطف الأساليب من غير جرح للمشاعر أو كسر للعلاقات، فرأس مال الدعوة هو تلك الرابطة التي تجمَّع أبناؤها عليها.
ختاماً... يقول تعالى: {يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم} [سورة الحجرات: 12]، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".
فواجب الأخوة أن تحمل كلام إخوانك على أحسن وجه، وإن لم تستطع فاتهم نفسك بعدم الفهم، فأن تخطئ في فهم القبيح خير من أن تنخر دعوتك بتشتيت الجماعة وتفريق المؤمنين.