لا يمكن الاستهانة بدور الإعلام في التأثير الكبير على سيكولوجية الجماهير وحراكها الثوري، فالجماهير بطبعها لا منطقية، تحركها الصورة والخطاب العاطفي ولا وقت لديها للكتابات الطويلة والأفلام العلمية بقدر ما تستهويها الإثارة ودخولها السريع في الأحداث، فقد أصبح في جيب كل منَّا ما يربطه بالأحداث على مدار الساعة وبالصوت والصورة.
تضاءل عصر الكتابات الورقية من جرائد وصحف ومجلات، وبدأ الاهتمام بتحويل هذه الصحف والمجلات إلى مواقع إلكترونية، أكثر سهولة وأقل تكلفة للوصول إلى الجماهير، ولم تعد الكتابة حكراً على كبار الكتاب، بل أصبحت فضاءً واسعاً للجميع، وبكافة المستويات الثقافية والعلمية، فقد تحصد صورة راعٍ بسيط يحاصِرُهُ جنود الاحتلال ملايين المعجبين في العالم، في حين قد لا يتجاوز قرَّاء مقال طويل لأحد الكتاب المشهورين 10 آلاف قارئ، وقد يحصد تعليق بسيط على صفحات التواصل الاجتماعي لأحد الفتية المضطهدين الفلسطينيين ملايين المعجبين.
"القارئ ليس معه الكثير من الوقت للقراءة، فعين المتابع ماسحة وليست قارئة، وتحتاج الجمل القصيرة المدعمة بالأدلة والصور"
فهذه المتابعة تحركها العواطف والمشاعر الإنسانية لجميع العالم، ولننتبه لنقطة غاية في الأهمية أن القارئ أو المتابع ليس معه الكثير من الوقت للقراءة، فعين المتابع ماسحة وليست قارئة، وتحتاج الجمل القصيرة المدعمة بالأدلة والصور.
على مدار سنوات طويلة كان الاحتلال الصهيوني يزيِف الحقائق ويسيطر على القنوات الإعلامية في العالم، ويوجِّه السياسات بأن الفلسطيني هو المعتدي، وأن الفلسطينيين متخلفون وبدائيون، وكل ذلك حسب نظرية "الحقنة" في الإعلام السياسي، بعد تغذية السياسات لكبرى القنوات الاعلامية العالمية.... لكن اليوم اختلفت الصورة تماماً، فلا مجال للتزييف في ظل فضاء مفتوح يعتبر ساحة صراع وتحدٍ كبيرة، تظهر فيه المنافسة العالية في إظهار الحقائق والتأييد والمناصرة للفلسطينيين.
لقد استطاع جيل الاعلام الحديث الوصول لجميع العالم ليتحدث عن عدالة قضيته، وجرائم الاحتلال بحقه، عبر نقل الصورة المباشرة بكل اللغات، وبمجرد ثوانٍ ستصل هذه الصورة لأجهزة الأمريكان والأوروبيين والشرقيين والعرب، ليضع الفلسطيني موطأ قديم عريض له في الحرب الدائرة لتشويه صورته وقلب الحقائق... حيث الصورة خير دليل، ويعتمد انتشارها وتأثيرها على مدى كفاءة ونجاعة المدونين والنشطاء الجدد الفلسطينيين.
"روح الجماهير ونضالها تحتاج "الصاعق فقط" لتحريكها، فكان الصاعق عبر شبكات التواصل الاجتماعي حينما استغلها الفلسطيني جيداً"
لم تعد مقادير الأمم تحسم في مجالس الحكام، وإنما في روح الجماهير، فنضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع أحد أن يهددها بأي شي، وهي القوة الوحيدة التي تزداد هيبتها وجاذبتها باستمرار، روح الجماهير ونضالها تحتاج "الصاعق فقط" لتحريكها وإشعالها، فكان الصاعق عبر شبكات التواصل الاجتماعي حينما استغلها الفلسطيني جيداً.
لقد عاش الفلسطيني على مدار سنوات طويلة مزيجاً من الخوف والقلق والظلم بأشكاله، فجاءت شبكات التواصل الاجتماعي لتفجر ما في داخله، وشكلت منابر كبيرة وسلطة رقابية جديدة حاولت السلطة الحاكمة والاحتلال السيطرة عليها لكنها فشلت وستفشل لأن هذا فضاء مفتوح لا يمكن قمعه، ولكن يمكن مجاراته.
تفجرت الانتفاضة الفلسطينية الحالية وانطلقت من خلف شبكات التواصل الاجتماعي، وشحنت المشاهد السريعة والكثيرة قلوب الشباب فثاروا كبركان، وبدون قيادة، فحراك الجماهير عفوياً، وتأسست بعض المجموعات الاجتماعية الشبابية لتصبح "الدينامو" الأول لهذه الانتفاضة، فتناقل الأخبار والتعميمات أصبح سهل الوصول للجميع، مثال ذلك قنوات المشاركة الصوتية عبر برنامج"zello"، أو "whats app"، أو التغريدات الفورية، ومقاطع الفيديو والصور، عبر "تويتر" و"فيس بوك".... كل هذه الأدوات أخرجت الفلسطيني من حالة الركود والصمت لحالة الثورة التي انطلقت عبر الواقع.
لقد أربكت مواقع التواصل الاجتماعي حسابات الاحتلال الصهيوني، فهي تعمل كـ"دينامو" للانتفاضة على مدار الساعة، وأستذكر هنا ما صرَّح به نتنياهو قائلا: "إن المعركة الأساسية يجب أن تتركز ضد مواقع التواصل الاجتماعي التحريضية، والإعلام الفلسطيني..."، وقد كان هذا أول تصريح ضد نشطاء التواصل الاجتماعي، أنشأ الاحتلال بعدها وحدة كاملة لمراقبة مواقع التواصل الاجتماعي.
وبدأت مواقع التواصل الاجتماعي تقود الانتفاضة عبر الإعلان عن المسيرات ونقاط المواجهات والاشتباكات، ونقلت الصور والفيديوهات للعمليات البطولية حالة من الهلع والخوف في قلوب المحتلين، والذين يتابعون أولاً بأول عبر شبكات التواصل الاجتماعي خصوصاً تلك التي ترتبط بهشتاج "عبري" موجه.
"علينا أن لا نتغافل عن دور الإعلام الحديث في أي معركة قادمة، إنه يمسُّ الوعي مباشرة.. يخاطب الجماهير.. ويخاطب كل الأطراف"
علينا أن لا نتغافل عن دور الإعلام الحديث في أي معركة قادمة، إنه يمسُّ الوعي مباشرة.. يخاطب الجماهير.. ويخاطب كل الأطراف الفلسطينية وجبهة العدو، والأطراف الخارجية العربية والأوروبية والشرقية والأمريكية، أعتقد أن أهمية هذا الدور في معركة التحرير تتطلب منا دعماً كبيراً لنشطاء التواصل الاجتماعي والمغردين، وإن كانت أعمالهم عفوية، لكن لماذا لا يغرد المغردون بلغات عدَّة عن فلسطين وحقها وأهلها وأرضها؟ لماذا لا يغرد المغردون بمجتمع تشبيك ومجموعات كبيرة داخلية وخارجية لفلسطين، تتوحد تحت شعار واحد وسياسة واحدة؟ -هذا ما أقصده-، وهذه مبادرة قوية وجريئة تحتاج التنفيذ.
لقد كشفت مواقع التواصل الاجتماعي مدى الظلم الذي يتعرض له الفلسطيني سواء من السلطة أو الاحتلال، فكثير من النشطاء اعتقلوا بسبب منشور عبر فيس بوك أو تويتر، وكثير من الحسابات مراقبة على مدار الساعة، لكن هذا الفضاء أكبر من أن يحتويه أحد، لأن الجيل الجديد مجموعات تسلِّم مجموعات، وليس من السهولة التحكم بها.
إن اهتمام القيادة من كافة الفصائل والتنظيمات بالفضاء المفتوح، وعصر ما بعد "google" ليدل على عمق في التفكير واستغلال كافة ساحات الصراع مع هذا الاحتلال، فنشطاء الإعلام اليوم استطاعوا بكل قوة تغيير الصورة في الغرب والشرق، ورفع المعنوية لدى الفلسطينيين، وكسرها لدى الصهاينة... لذلك هذا شكل جديد للمقاومة والتحرر مرافق ومساند للبندقية، وحامي ظهرها.