من بين الأمور الملتبسة في عصرنا الحديث، سواء على مستوى العوام، أو الكُتَّاب المتخصصين، تلك المتعلقة بالمعايير التي يتم الاعتماد عليها لتوصيف الحضارة الإنسانية.
ففي ظل امتلاك الغرب لوسائط "الميديا" والمعرفة المختلفة، وما تمنحه التقنية الرقمية من سيادة شبه مطلقة على قلوب وعقول الجماهير والشعوب؛ صارت الممارسة الغربية، والنموذج الغربي، هما صنوا مفهوم "الحضارة" عند كثير من شعوب العالم، خصوصًا الشعوب التي لا تزال في بداية سلم التطور الحضاري، أو لا تزال تبحث عن نقطة للبدء.
تحول مفهوم الحضارة في عصرنا الحديث إلى مرادف للتقدم العلمي والتقني، ومقدار ما تملكه الدولة أو الأمة من معلومات أو أجهزة حاسب أو أقمار صناعية، أو حجم ما تنتجه سنويًّا من براءات اختراع وبحوث علمية.
طبعًا هذه المعايير هي جزء مهم من مصطلح أو مفهوم الحضارة، ولكنها ليست كل شيء؛ فأصل الحضارة هي تحسين واقع الإنسان، سواء أكان فردًا أم جماعة، وسواء كانت هذه الجماعة، أمة أم الجماعة الإنسانية بشكل عام.
"كل فعل يساهم في تحسين حياة الإنسان، وزيادة رفاهية البشرية هو فعل حضاري"
فبعيدًا عن التعريف التقليدي للحضارة، والذي لم يتفق علماء العمران والباحثين في حقل العلوم الإنسانية، على تعريف جامع موحَّد، فكل فعل يساهم في تحسين حياة الإنسان، وزيادة رفاهية البشرية؛ إنما هو فعل حضاري.
ولكن الحضارة ليست التقدم العلمي والتطاول في البنيان أو العمران فحسب؛ حيث هي منظومة متآلفة متكاملة فيما بينها من العناصر، مثل الموارد الاقتصادية، والنظام السياسي الرشيد الذي يضمن عناصر المساءلة والمحاسبة للحاكم، والشفافية، واحترام حقوق الإنسان، والتوزيع العادل للثروة والسلطة، وسيادة القانون.
ومن بين أهم هذه العناصر التي تشكل الفعل الحضاري، ورآها الكثيرون في ذات أهمية التنمية والنهضة السياسية والاقتصادية، الأخلاق والقيم، وتطور وارتقاء العلوم والآداب والفنون، وهذه الأخيرة بالذات مهمة في كونها ترتبط بتهذيب خلق الإنسان والارتقاء بمشاعره إلى المزيد من الطابع الإنساني.
وليست الحضارة بدعًا من ذلك؛ فالدين نفسه، نزل لإتمام مكارم الأخلاق، كما قال المصطفى "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
"القيم والضوابط الأخلاقية، هي التي تضمن حسن وصواب توجيه الموارد الاقتصادية والإنتاج العلمي الذي توصلت إليه أمة ما"
فالقيم والضوابط الأخلاقية، هي التي تضمن حسن وصواب توجيه الموارد الاقتصادية والإنتاج العلمي الذي توصلت إليه أمة ما، أو حضارة ما، إلى الوجهة السليمة، بما يخدم الإنسانية، ويساعد في الارتقاء بحياة الإنسان، فردًا وجماعات، بالشكل الذي يحقق جانبًا مهمًّا من حكمة خلقه، وهو عمران الآرض، وبالتالي تحقيق الغاية العظمى من خلق الإنسان، وهو عبادة الله تعالى، وإفراده بها، في إطار عقيدة التوحيد.. {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61)} [سُورة "هود"].
ومن دون الوازع الديني، والوازع القيمي والأخلاقي، سيقع الشر، ويتم توجيه المنجز العلمي، والمورد الاقتصادي، إلى وجهات غير سوية، كالخراب والدمار.
وهو أمر نجده في الغرب واضحًا، فالمعامل التي تقوم بتطوير الأدوية والعقاقير الطبية، تعمل في ذات الوقت على تطوير الأسلحة البيولوجية، والمصانع الضخمة التي تنتج المحركات التي تسهل على الإنسان الحركة والعمران؛ تنتج كذلك أسلحة الخراب والدمار، ومن هنا؛ يضيع أي أثر للتقدم العلمي والتطور الاقتصادي في تحسين حال الإنسانية.
فلو قارنَّا ما بين مكاسب هذه المعامل والمصانع في تحسين حياة مجموعة من البشر؛ لوجدناها تتضاءل أمام ما نشرته من خراب في أوساط مجموعات إنسانية أخرى؛ فدواء الجدري أو فيروس "C" الذي أنتجته معامل "CDC" في أطلانطا، وفي معامل "باستير" في فرنسا، أنقذت بضعة ملايين، بينما قتل السلاح الأمريكي والغربي بضعة ملايين أخرى في مناطق متفرقة من العالم.
وبالتالي؛ يتحقق عكس المأمول من الفعل الحضاري، وهو العمران، وإسناد جهود الإنسانية في تحقيق بعض ما في القوانين الإلهية من حكمة في خلق الإنسان، وضوابط حياته في الأرض، في استعمارها بالمعنى الإيجابي؛ حيث الوجه الآخر "للحضارة" الغربية، هو نشر الموت والخراب.
أما لو كانت الضوابط الدينية والأخلاقية والقانونية قائمة؛ لكانت الفائدة هي الغالبة، ولَتَحقَّق مفهوم الحضارة والمدنية بالشكل الصحيح.
ولكن وبما أن قوانين وسنن الله تعالى، فإن المكوِّن الحضاري إذا ما تجاوز أهدافه الصحيحة في تحقيق وصيانة العمران؛ سوف يقود إلى تحلل الحضارات الإنسانية القائمة.
"غياب الضابط القيمي والأخلاقي قاد إلى انهيار الكثير من الحضارات التي كانت في أوج تقدمها وازدهارها الاقتصادي والعلمي"
وهو أمر يمكن قياسه في الحضارات القديمة؛ فغياب الضابط القيمي والأخلاقي قاد إلى انهيار الكثير من الحضارات التي كانت في أوج تقدمها وازدهارها الاقتصادي والعلمي، وهو أمر واجهته الحضارة الإسلامية ذاتها في حالة الدولة العباسية الثانية، ودولة الإسلام في الأندلس؛ فكلتاهما لم يكن ينقصه الموارد الاقتصادية، وكانت المراكز العلمية والتعليمية والثقافية، هنا وهناك، تقدم الاستنارة والعلم للعالم كله، ولكن لأن الضابط القيمي والأخلاقي ضعف؛ فقد ضعفت كلتا الحضارتَيْن، وانهارت أمام أعدائها في الشرق والغرب.
وفي زماننا هذا؛ لو نظرنا إلى الغرب، وإلى خريطة الحضارات الإنسانية في الوقت الراهن، فإننا سوف نجد أن المجتمعات الأكثر أخلاقية بالمقاييس النسبية، هناك، أكثر استقرارًا، كما في الهند والصين، وفي بعض بلدان أوروبا الشمالية، بينما من تحلل منها من هذه الضوابط، يواجه خطر التحلل رغم كل تقدمه المادي، الاقتصادي والعلمي والسياسي، على النحو الذي اعترف به مفكرون من وزن برتراند راسل، وآرثر ميللر، في بريطانيا والولايات المتحدة، وغيرها من البلدان والأمم المتقدمة في الغرب.
بالمثل؛ فإن الأمة الإسلامية لن تستطيع النهوض، واستعادة موضعها الريادي على رأس خريطة الحضارات الإنسانية؛ إلا إذا استعادت مكونها الأخلاقي والقيمي الذي جاءت به شريعة الإسلام، ومهما حاولت في مجال التنمية وصناعة التقنية؛ فإنها لن تنجح من دون استعادة منهاجها الرباني الذي اختارها له رب العزة سبحانه.