الرّبيع المُحمَّديُّ الغائبُ عن حياتنا!

الرئيسية » خواطر تربوية » الرّبيع المُحمَّديُّ الغائبُ عن حياتنا!
12

مشهدان مرّت عليهما سنواتٌ ولا يزالان عالقَين في ذهني، ويحتلّان صدارة التفكير الممزوج بالألم والحسرة كلّما بَزَغَ هلالُ شهرِ ربيع الأوّل من كلّ عام، المشهد الأوّل منهما، لمّا كنت شاباً يافعاً وطُلب منّي أن أخطّ عبارة (بلدية إسلامية) كي تُوضع لافتة عند مدخل مبنى المجلس الشعبي البلدي، الذي لا ينقصه سوى هذه العبارة حتّى يتزيّن بعنوان الرّسالة التي جاء بها خاتم الرّسل عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم! وكأنَّ هذه العبارة تضفي على المبنى وموظفيه أخلاق وآداب أو معاملة الإسلام، وإن كانوا بعيدين كلّ البُعد عن ذلك!
فقلت في نفسي: تُرى هل ستغيّرُ هذه العبارة من أخلاقنا وعاداتنا، أم إنّها ستظلّ مظهراً من مظاهر التديّن المغشوش التي يتعلّق بالقشور والعناوين وينسى اللّبَّ والمضامين!

أمّا المشهد الثاني، فيتعلّق بحلول شهر ربيع الأوّل من كل عام، في بعض البلاد الإسلامية، كنت أرى وأشاهد الدور والمحلاّت والشوارع تتزّين بالأعلام الملوّنة التي تحمل عباراتِ الترحيبِ والتّوقيرِ والصَّلاة على الرّسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وتتنوّع المجالس والاحتفالات بالمولد النبويّ الشريف، ويُتنافس في ذلك، بمظاهر وطقوس تنافي سنّته وسيرته، وقد يصل الأمر إلى حدّ الإسراف والبذخ!
فقلت في نفسي: تُرى هل يُرضي رسولَ الله عليه الصَّلاة والسّلام أنَّ نتعلّق بمظاهر الاحتفال في ذكرى مولده وننسى سيرته العطرة وسنّته الشريفة، وتصبح ذكرى مولده موعداً للبُعد عن سنّته في بيوتنا وأسواقنا وشوارعنا!

تستدعي ذاكرتي صوراً أليمة ومظاهر تبعث بالحسرة من المشهدين السَّابقين، كلّما حلّ شهرُ ربيع الأوّل، صورَ البعد عن استحضاره قدوة في التربية والدعوة والفكر والسياسة، صورَ هجران سنّته في التعامل مع الأشقاء والأعداء، صورَ تنكّر الانتماء للرّسالة التي جاء بها والتحاكم إليها بعيداً عن الأهواء وحظوظ النفس...

تلك بعض الصور الأليمة، ومظاهر تبعث بالحسرة، مظاهر الحبّ المغشوش أو المغلوط لسنّته فهماً وسلوكاً، ومظاهر النّفاق والغشّ والتدليس يجتمع إليها رؤساء الاستبداد والظلم والإجرام بحق شعوبهم، ويؤمّهم فيها أئمة وخطباء باعوا ضمائرهم بثمن بخسٍ من قربان يحلق الدّين!

إنَّ شهرَ ربيع الأوَّل بمولدِ الرّسول صلوات ربّي وسلامه عليه، كان ربيعاً للبشرية جمعاء، ربيعاً بالرّحمة؛ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. (الأنبياء:107).. وكان ربيعاً للأمّة، ربيعاً مضيئاً وهادياً؛ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}. (الأحزاب:45-46).. وكان ربيعَ الوسطية والاعتدال والتوازن في الحبّ والدَّعوة؛ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} . (التوبة:128).

كان ربيعَ العدل بكل صوره، ولو كان تطبيقه على أقرب النَّاس؛ ((لَو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمد سرَقَت لقطعتُ يدَها)). (سنن الترمذي).

كان ربيعَ التقرّب إلى الله بالعبادة والطاعة ((يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟)). (رواه مسلم).

كان ربيعَ الاهتمام بالمرأة المسلمة والإحسانِ إليها ((خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي)). (رواه الترمذي وابن ماجه).

كان ربيعَ الدَّعوة والتّضحية والجهاد وربيعَ الصَّبر على المحن والإيذاء والابتلاء {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. (يوسف:108).

كان ربيعَ الرّفق ولين الجانب مع المؤمنين، وربيعَ الشدّة على الكافرين {َمحمد رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}. (الفتح:29).

كان ربيعَ الصَّدق في الحديث والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن والبعد عن الجدال والمِراء ((أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان محقّاً، وببيت في وسط الجنَّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً)). (سنن أبي داود).

هذه جزءٌ من أنوار الرّبيع المحمدي الذي يغيب عن حياتنا في هذا العصر فكراً وسلوكاً، نستذكرها في ذكرى مولده صلوات ربي وسلامه عليه التي باتت تحكمها مظاهر وطقوس تركّز على الشكليات وتنسى الجوهر والمضمون، ذلك الرّبيع المحمدي في سيرته وسنّته يزداد شوقنا إليه ليعمّ أرجاءَ الكون كما جاءت رسالته الخالدة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …