“حماس” بين انتفاضتَيْن.. دروس وعبر

الرئيسية » ملفات خاصة » انتفاضة القدس » “حماس” بين انتفاضتَيْن.. دروس وعبر
حقائق عن حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية حماس

تأتي الذكرى الثامنة والعشرين لتأسيس حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، هذا العام في إطار مفارقة زمنية شديدة الدلالة؛ حيث تتزامن الذكرى مع "انتفاضة القدس"، انتفاضة الفلسطينيين الثالثة في التاريخ المعاصر، بينما كانت انطلاقة الحركة من رحم "انتفاضة الحجارة"، أولى انتفاضات أطفال فلسطين ضد المحتل الصهيوني الغاصب.

ولئن قلنا مفارقة زمنية؛ إلا أنها تحوي بداخلها بدورها مفارقات تاريخية عدة، أبرزها الذي سوف يحفظه لنا الضمير الإنساني، هو أن جيل أطفال الحجارة، هو الآن الذي يقود انتفاضة القدس، بعد أن تحول حامل الحجر، إلى قاذف للصواريخ، وقناص يقبض أرواح مجرمي المستوطنين من شذاذ الآفاق، ممَّن أحلوا قتل الأطفال وحرقهم في بيوتهم، والاستيلاء على أراضيهم.

ولعل في هذه اللافتة ما يقول بحقيقة هذه الحركة المباركة، التي بدأت بانتفاضة وتحتفل بذكرى التأسيس وهي تقود انتفاضة أخرى، قامت لأجل المقدسات، ودفاعًا عن شرف الأمة الغارقة في أزماتها، معبرة عن طليعة سليمة الرؤية، أمسكت بزمام الأمور، وحالت دون اكتمال مؤامرة أوسلو التي كانت تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وتثبيت وضعية الكيان الصهيوني الغاصب، كدولة شرعية في هذا المفرق الحيوي من إقليم الأمة؛ حيث فاصل جيوسياسي قطع تواصل الأمة البشري والسياسي.

"لم تحقق حركة حماس ما أرادته إلا من خلال تبنيها قواعد العمران والعمل الحركي السليمة، بحيث باتت نموذجاً للعمل أمام حركات إسلامية أقدم"

خاضت "حماس" طيلة عقودٍثلاثة، معارك سياسية وعسكرية كبرى، كان لها أبلغ الأثر في عرقلة مشروعات التسوية والانهزامية، التي حملت مصالح أطرافها، أكثر مما حملت مصالح الشعب الفلسطيني، والأمة العربية والإسلامية من ورائه؛ حيث تأسيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية، وتكريس وجودها بسلطاتها المنقوصة، وتبعيتها للاحتلال، على مختلف المستويات، السياسية والأمنية والاقتصادية، كان لمجرد منح صفات زائفة لأشخاص يحققون من ورائها جاه ومكاسب، ولكن بلا دور حقيقي، أو خدمة حقيقية للقضية.

لم تحقق "حماس"، وخصوصًا ذراعها العسكري، "كتائب الشهيد عز الدين القسَّام"، ما حققته من إنجازات اعترف بها القاصي والداني، بل والعدو نفسه، الذي اعترف قادته العسكريون والسياسيون، بأن فكرة القضاء على حماس"، باتت خارج التاريخ؛ لم تحقق الحركة ذلك إلا من خلال تبنيها قواعد العمران والعمل الحركي السليمة، بحيث باتت نموذجاً للعمل أمام حركات إسلامية أقدم، حتى على مستوى جماعة "الإخوان المسلمون" الأم، التي تُعتبر "حماس" أحد روافدها المتميزة.

وأول هذه القواعد، التأسيس التربوي السليم، اتساقًا مع مدرسة النبوة؛ حيث سادت دولة الإسلام، دولة العدل والمساواة والرحمة والعتق من عبودية غير الله عز وجل، العالم القديم بأكمله، بعد أقل من ثلاثة عقود من بعثة محمد "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بالتربية القوية المتينة وحدها.

وفي هذا السياق، نجد حرص الحركة على تبني برنامج تأهيلي شامل متكامل، يهتم بمختلف جوانب شخصية الفرد، مهما كان الدور الذي يلعبه الفرد، إعلامي، مقاتل، سياسي، تربوي، وغير ذلك، وفق القواعد التي يفرضها العلم الصحيح، بقوانينه، وليس بناءً على رؤى أو اجتهادات ذاتية.

"بنت "حماس" مخططاتها على أساس عدد من الاعتبارات السليمة، والضرورية للنجاح، الأول هو الرؤية السليمة الواضحة، والثاني، هو أن لكل مقام مقال وفعل، يتغير بتغير الواقع الذي تتحرك فيه الحركة"

ولم تتحرك "حماس" في فراغ؛ حيث بنت مخططاتها القصيرة والمتوسط والطويلة الأمد، على أساس عدد من الاعتبارات السليمة، والضرورية لنجاح أي مشروع مماثل، ومن دونها الفشل.

الاعتبار الأول هو الرؤية السليمة الواضحة، وما تتضمنه من إجابات على أسئلة: من نحن؟.. ما هي رسالتنا؟.. وكيف سنحققها؟، والثاني، هو أن لكل مقام مقال وفعل، يتغير –وفق الثوابت– بتغير الواقع الذي تتحرك فيه الحركة، واضحةً البدائل اللازمة لكل ظرف، وكل مرحلة.

فسياسيًّا –على سبيل المثال– تتبنى الحركة مبدأ المرونة والمواءمة، ولكن بميزان دقيق، لا يفرط في الثوابت، ولا يتشدد في الوقت ذاته، بحيث يقود الأمر إلى دمار كامل للمشروع؛ حيث تعرف متى تعطي ومتى تأخذ، ومتى تتحرك ومتى تقف، وهو ما وقى الحركة الجمود بالتشدد والتصلُّب في المواقف، من جهة، وفقدان الثقة والمصداقية، بالتساهل، من جهة أخرى.

أما اجتماعيًّا –وهو في جانب منه أمر سياسي وحركي– فقد علمت الحركة منذ تأسيسها، أنه من دون حاضنة شعبية؛ لن يمكنها تحقيق برنامجها في تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.

فأولاً هذا الهدف طويل المدى، وثانيًا هو شاقٌّ للغاية، ولا يمكن تحقيقه إلا من خلال صاحب الشرعية الأول، وهو الشعب الفلسطيني، ولن يمكن للشعب الفلسطيني تقديم التضحيات المؤلمة، إلا من خلال تنشئته على ذلك، وتنويره بما يجب عليه القيام به، وما ينتظره من ألم وتضحيات كبرى.

ولذلك خاضت "حماس" في قطاع غزة، منذ انتفاضة الأقصى الثانية، وحتى الآن، حروبًا عديدة، وتحملها الشعب الفلسطيني في القطاع، وفرض الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية، وذوي القربى، من بعض العواصم العربية، حصارًا خانقًا كاسحًا، وبالرغم من ذلك لم يثُر أهل غزة أو يتذمروا، بل كان ذلك حافزًا لهم لتقديم أفضل ما لديهم.. حرصوا على الأمن، وعلى تربية أبنائهم على ذات القيم، وعلى التعليم، وحتى على نظافة الشوارع، وعلى كل ما يظهر الوجه الحضاري للشعب الفلسطيني.

"حرصت "حماس" -ومنذ النشأة- على التأسيس للحاضنة الشعبية المؤمنة بالمبدأ، وعلى استعداد للتضحية، ولذلك صار من المستحيل اقتلاعها؛ لأن اقتلاعها يعني اقتلاع شعب بالكامل"

كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا أن "حماس"، ومنذ النشأة الأولى، حرصت على التأسيس للحاضنة الشعبية المؤمنة بالمبدأ، وعلى استعداد للتضحية، ولذلك صار من المستحيل اقتلاع "حماس"؛ لأن اقتلاعها يعني اقتلاع شعب بالكامل.

وهنا يجب أن ننوه أن "حماس" قائمة منذ نحو من أربعين عامًا، عندما بدأ الشهيد المؤسس، الشيخ أحمد ياسين، والرعيل الأول للحركة الإسلامية، في الأراضي الفلسطينية، سواء المحتلة عام 1948م، أو عام 1967م، في العمل لتأسيس حركة مقاومة إسلامية الطابع والمنهج، أما الانطلاقة والإعلان، فهي التي كانت في كانون الأول/ ديسمبر 1987م، عندما تم اختيار نقطة الانتفاضة الأولى، لإطلاق الحركة.

ويمكن القول دون خطأ كبير، أن تأسيس "حماس"، كحركة، يعود إلى نقطة زمنية في العام 1973م، عندما تم تأسيس جمعية المجمع الإسلامي في قطاع غزة، بينما يعود آخرون بالحركة إلى نقاط أبعد، مثل نيسان/ أبريل من العام 1963م، عندما تم تأسيس المركز الإسلامي في القطاع، أو إلى نقطة تأسيس فرع للإخوان المسلمين في فلسطين، بدءًا من شُعبة بيسان، عام 1945م، وشُعبة رفح، في العام 1947م، ومن قبلها، شُعَب الإخوان في القدس وحيفا، في العام 1937م، استجابة لثورة القسام والثورة العربية الكبرى.

وبقطع النظر عن قضية زمن التأسيس، وأي هذه النقاط الزمنية أكثر دقة؛ فإن المهم هو الدروس المستفادة من ذلك، فالتأسيس لكيان قوي يعني العمل الدؤوب، والتجذر التاريخي والاجتماعي، وتفجير الطاقات، والاهتمام بالعلم وقواعده، العلم العمراني، الاجتماعي والسياسي، والعلم المادي بمقاييسه.

فاهتمت "حماس" بجانب التربية العامة، بالتخصص، فصار فيها مهندسون، ومخططون عسكريون واستراتيجيون، وقادة سياسيون، ودعاة، وكل الفئات المطلوبة لأجل القيام بالمهمة.. مهمة تحرير فلسطين، واسترداد القدس والأقصى.

هنيئًا لـ"حماس" في ذكرى انطلاقتها، ولكن هذه التهنئة لا ينبغي –كما تعلمنا من منهج الإمام البنا؛ أننا قوم حركيون وعمليون– أن تمر ونحن وقوف أمام المناسبة فحسب؛ حيث إن المطلوب هو التعلم والدرس، ونشر العبر والعظات، والبحث عن الثغرات والمشكلات، ومعالجتها، فبهذا؛ بهذا فقط، نكون قومٌ عمليين!.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …