مدينة الخليل لها من اسمها الموصول بخليل الرّحمن إبراهيم عليه السلام نصيبٌ؛ في فتوّته وقوّته وصبره وشجاعته ودأبه على الكفاح ومواصلة الرّسالة، كان يأبى الشرك ويحاربه والظلم والطغيان في الأرض ويقارعه وهو فتى صغير، قال الله تعالى على لسان قوم إبراهيم عبدة الأصنام {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}. [الأنبياء:21]. وقد وصفه المولى تبارك وتعالى.. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. [النحل:120].
ولأهل الخليل نصيبٌ من هذا النبيّ الكريم عليه السَّلام، في سيرته ومسيرته، فلا تزال المدينة تنبض بخلق إبراهيم الخليل في نبذ الظلم والاستبداد، وتستلهم منه مقاومة الاحتلال والتفاني في التضحية من أجل الحرية واسترداد الأرض وتحرير الأقصى والمقدسات، وهي في ذلك تخرّج الرّجال الأبطال الذين يسطّرون ملاحم الصمود والبطولة في مواجهة الاحتلال والانتصار للقدس والأقصى.
ولمدينة الخليل محطات زاخرة بالمقاومة وبصمات واضحة فيها على مرّ التاريخ، ففي كل انتفاضة نجد أنَّ للخليل وأهلها نصيباً من الشهداء والجرحى والأسرى والمعتقلين، حتى إذا جاءت انتفاضة القدس، هبّ أهلها كهبّة رجل واحد انتصاراً للقدس والأقصى، ففي كل بيتٍ قصة بطولة، وفي كلّ حارة من حاراتها بصمات تضحية ومقاومة، وفي كل زاوية خبر عملية طعن أو دعس أو قنص؛ يثخن في العدو، وتفرح له كلّ فلسطين، وتزغرد له نساؤها وحرائرها، وفي كل عائلة ذكرى شهيد، حيث تزخر مدينة الخليل بعوائل الشهداء، وعائلتنا اليوم من آل إرشيد، هذه العائلة قدّمت فلذتين من أبنائها في انتفاضة القدس المستمرة، ولسان حالها : "لا تبكوا على الشهداء، بل ابكوا على الحال الذي وصلنا إليه". وأمنيات عائلة إرشيد تحرير الأقصى المبارك ليلهج لسان الأب "جهاد" بعد سماع نبأ استشهاد ابنه: "الأقصى بدو دم كثير، واحنا لا زلنا في البداية"..
"دانيا إرشيد" الفتاة الشهيدة
كانت البداية مع "دانية" الفتاة ذات الـ17 ربيعاً، الطالبة في إحدى شعب الصف الثاني عشر بمدرسة الريان للبنات غربي الخليل، وفي يوم الأحد 25 تشرين الأول (أكتوبر)، مرّت "دانيا" بكل بسالة وشجاعة بجانب حاجز عسكري صهيوني بالقرب من المسجد الإبراهيمي الذي كانت تتوجّه إليه للصلاة والدعاء، قبل أن ينتبه لها جنود الاحتلال، ليمطروا جسدها الفتيّ بأكثر من 8 طلقات، ويعدمونها بدم بارد، ويتركها جنود الاحتلال تنزف دماً لترتقي شهيدة، وتلتحق بركب شهداء انتفاضة القدس.
"عدي إرشيد" .. البطل الشهيد

كان عدي ذو (24 عاماً) ناشطاً يشارك في المواجهات مع الاحتلال الصهيوني بمدينة الخليل، وكان دائماً يتمنّى الشهادة ويطلبها، حيث كتب في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك) بعنوان "أشتهي زفة كهذه"، ويقصد "زفة الشهيد"، يقول: "الله يطعمني اياها وأكون شفيع لكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله . الله يتقبلوكن في الجنة يا شهداء فلسطين . أبو جهاد".
لقد صدق الله في دعائه، فوهبه الله ما تمنّاه، وبعد شهرين من استشهاد أخته، وفي يوم الجمعة 11 كانون الأول (ديسمبر) 2015م، شارك عدي في المواجهات التي التي تشهدها منطقة راس الجورة بالخليل، وتقدّم ببسالة كعادته، لتصيبه رصاصة غادرة في الصدر، وينال الشهادة التي طلبها وتمنّاها، ويلتحق بأخته الشهيدة "دانيا"، ليصبحا شقيقين في المقاومة والشهادة.
فرحة والد الشهيدين ..

المهندس الفلسطيني حازم فاخوري ابن الخليل التقى والد الشهيدين، قُبيل تلقيه نبأ استشهاد ابنه عُدي، ويروي تفاصيل ذلك على صفحته الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك): "كنت اليوم أسيرُ مع والد الشهيدة دانية إرشيد ونتحدَّث حول فضل الشهادة والشهداء وممَّا قاله لي: (هؤلاء عرفوا الحياة، عرفوا كيف يموتون ليحيوا، ونحن نعيش لنموت)، وحمد الله على شهادتهم فدعوت الله أن يرزقه بيت الحمد في الجنة.
ويضيف الفاخوي: "ثمَّ قال لي: (لديَّ خمسة أولاد وابنتان ولو أنّي زوجتهم جميعاً ما فرحت كفرحتي باستشهاد ابنتي)، وما عرف أنّه بعد لحظات سوف يأتيه خبر استشهاد نجله عدي".
وهاهي شقيقة الشهيدين "دانيا" و"عدي" تقف ببراءة طفولتها مبتسمة ابتسامة الفرح بالشهادة والانتصار للقدس والأقصى.. هذا هو الجيل الفلسطيني الجديد الذي يبدع في مقاومة الاحتلال ليصنع الانتصار.. إنَّه جيل النصر والتحرير.