يسود الخلاف في أسرة "مها" كلما علم زوجها بأنها قد أظهرت شيئاً من مخططات الأسرة التي ينوون إنجازها لأحد من الأقارب والأصدقاء؛ فالزوج يريد منها أن تكون كتومة في كل ما يتعلق بالأسرة والمنزل عملاً بالوصية النبوية "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان" أما هي فتعاني من عدم القدرة على التقيد بهذه السياسة التي تخرجها عن طبيعتها في حب السرد ومشاركة الآخرين لتجربتها وأفكارها؛ وتتساءل: لماذا يجب علي أن أكون كتومة في شؤون الأسرة والعائلة؟
أستاذ الشريعة المحاضر في الجامعة الأردنية الدكتور طارق عمرو أشار خلال حديثه الخاص لموقع "بصائر" إلى أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود" وهذا الحديث صحيح الإسناد ومروي عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم منهم معاذ بن جبل وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب.
ويدل هذا الحديث النبوي الشريف على أن الأعمال التي يقوم بها الإنسان ويسعى لتحقيقها والتي هي من شؤون حياته الخاصة ومما لها مساس بشخصه يطلب فيها الستر طالما أنها لا تمس الآخرين ولا تضيع عليهم منفعة ولا تشكل كتماناً للعلم النافع عنهم. وهنا لا شك بأن على الإنسان بأن يتكتم عليها وأن لا يشهرها للآخرين لتؤتي أكلها ويكون الكتمان في هذه الحالة أدعى لنجاحها.
ويضيف الدكتور عمرو بأن التعليلات لمقصد هذا الحديث كثيرة إلا أن أبرز ما أشار له الحديث الشريف هو الحسد، وأن كتمان الأمور عن الآخرين فيه درء للعين، وكذلك درء للقيل والقال وكثرة السؤال الذي ينجم عن هذه الأمور التي يباشرها الشخص بنفسه، لذلك لا بد على الإنسان أن يستعين على قضائها بسرية.
ويوضح الدكتور عمرو بأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعمل بمبدأ الكتمان في الأمور الحساسة والمتعلقة بأمن المجتمع المسلم وجوانبه العسكرية فكان عليه الصلاة والسلام يكتم عن غزواته وعن معاركه حتى لا يعطي فرصة للعدو لكي يتنبه ويتنبأ بمقدار قوة المسلمين وتحركاتهم، فكان إذا أراد أن يغزو غزوة ورّى بغيرها واتخذ من التدابير التي تموه طريق مسيره صلى الله عليه وسلم، ونذكر أيضاً أنه عندما هاجر نحو المدينة اختار طريقاً غير الطريق المؤدي إليها والذي توقعه المشركون واتخذ من التدابير التي تموه طريق مسيره وهذا المشهد يعد من السنة الفعلية التي تؤكد معنى الاستعانة على إنجاح الحوائج بالكتمان.
من الخلق أن نتقبل خصوصية الآخرين:
"د. طارق عمرو: على المؤمن أن لا يوجه للآخرين أسئلة قد تكشف خصوصيات هم لم يتحدثوا عنها"
ويشير الدكتور طارق عمرو إلى أن المجتمع الإسلامي مجتمع أدب وكياسة وحسن تصرف وسياسة، فلا حرج في أن يتكتم الإنسان على خصوصية. فمثلاً ما الداعي أن يعرف جميع الناس بأن فلان طلب يد فلانة؟ وما الداعي أن تعلم جميع النساء أن فلانة تراجع الطبيبة للعلاج من علة ما؟
ويضيف الدكتور عمرو بأن على المؤمن أن لا يوجه للآخرين أسئلة قد تكشف خصوصيات هم لم يتحدثوا عنها ويكتمونها وفيها إحراج لهم كالمسائل الشخصية والعائلية والوظيفية ولا يحث له أن يغضب لأنه لم يعلم بأمر ما لا يعنيه.
ويختم الدكتور عمرو بأن هناك عين خاشعة تخاف الله وتبكي من خشيه وهناك عين حاسدة أمرنا الله بأن نستعيذ منها ومن نفس صاحبها بقوله تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد} [الفلق:5].
الإسلام يحافظ على خصوصية الأفراد:
الدكتور أحمد فتحي قاسم الداعية والمحاضر في الشريعة الإسلامية بالكلية الأردنية أشار خلال حديثه الخاص لـ"بصائر" بأن التكتم على حوائج الفرد وقضاياه الشخصية عمل به الأنبياء السابقون صلوات الله عليهم وخير دليل على ذلك هو أمر يعقوب عليه السلام لابنه يوسف بكتم رؤياه عن إخوته فقال: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف:5].
وألمح الدكتور قاسم إلى أنه أيضاً فعل أصحاب الكهف الذين أرسلوا أحدهم الى المدينة ليشتري لهم ما يحتاجون وأوصوه أن لا يشعر به أحد قال تعالى في سورة الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} [سورة الكهف:19].
وأضاف بالإشارة إلى أن الإسلام حفظ للمسلم حق الاحتفاظ بخصوصياته وحرّم التجسس عليه واعتبره من الذنوب العظيمة التي يعاقب عليها، والتجسس هو الاطلاع على أمور لا يحب المرء أن يطلع عليها أحد وشرّع الإسلام الاستئذان من أجل ضمان عدم الاطلاع على ما يرغب المسلم بستره وإخفائه.
آداب الحديث عن النعم أمام الآخرين:
ويشير الدكتور أحمد قاسم إلى أنه وكما يشرع للمسلم كتم ما يتعلق بالأمور التي يخشى أن يحسد بسببها، أو يحصل له ضرر، ومثل ذلك ما كان كتمه أدعى لقضاء الحاجة. وإنْ لم يخف شيئا من ذلك فيحسن أن يتحدث بما أنعم الله به عليه شكرا لله على ذلك دون تفاخر ولا تطاول على الناس، فقد قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} {الضحى:11}. قال ابن العربي في تفسيره: إذا أصبت خيرا أو علمت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك على سبيل الشكر لا الفخر والتعالي.
ولا تكتموا الشهادة:
وحول ما ينهى عن كتمانه يشير الدكتور أحمد قاسم إلى أن الشارع الحكيم نهى عن كتمان أمور يترتب عليها ضرر على الآخرين ككتم الشهادة، قال تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة:283].
وكتم العلم، لقوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة:159]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم وكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" (رواه أحمد).
وكتم عيب السلعة عند البيع والشراء، فعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا بينه له" (رواه أحمد). وغيرها من الأمور التي يترتب على كتمها ضرر.