الخوف من الآخر والإحساس بالرهبة منه ينشأ مع رغبة المجتمع في التطور، ومحاولة الفرد لطرق أبواب الحياة، ولا يفتأ هذا الخوف الدخيل يبحث عن مستقر دائم فيجد في النفور والرفض وتصلّب الآخر بيئة خصبة تعززه وتقوّيه وتلائم نموّه، حتى ينخر هيكل المجتمع ويفتت أطرافه ويفسد دمه.
وتغليف العلاقات الإنسانية بإطار محدد ووسمها بمسميات ووسوم واضحة ومحددة يعمل على تعزيزها واستمرارها منسابة، سلسة وبلا تعقيدات، إلا إذا أُخطئ التقدير منذ البداية فإنها قد تنحرف وتصل إلى طرق مسدودة، بينما تركها على سجيتها دون حدود وقيود بشرية مفتعلة يجعلها تستمر بإيجابية.
ولعل الاختلاف الفطري والفروقات الفردية بين الناس واحدة من أهم المبادئ التي يجب الارتكاز عليها حين تلقين الإنسان دروس الحياة. فنحن نختلف لنعرف قيمة كل شيء حين نلتقي.
لا يوجد قانون للاختلاف:
"التوزيع الرباني لكل الأقدار هو أهم مثال وأقوى حجة على أن الاختلاف هو الأصل"
كلما بحثت عن نمط أصف فيه الاختلاف ضعت في بساطة الفطرة وانسيابها، حيث الاختلاف فطرة، والفطرة يمكنها أن تكون في كل شيء، إلا مرادفة التعقيد والبحث والتصنيف بالضرورة، إنها القانون الأول في الحياة.
ليس مطلوباً منا أبداً أن نتعلم كيف يمكننا أن نختلف ونبقى ودودين، أن نختلف ونبقى أصدقاء، أن نختلف ونبقى منطقيين، وتبقى جسور التواصل مفتوحة، ممتدة، ومتينة.
لا قانون للاختلاف فعلاً؛ لأن القانون هو صناعة الفرق الحقيقي في الحياة.
والتوزيع الرباني للألوان والمهام والأجناس والأرزاق والحظوظ وكل الأقدار (ذلك التوزيع العادل المنصف الذي يعتبر مطلق الصحة والسلامة) هو أهم مثال وأقوى حجة على أن الاختلاف هو الأصل.
لا تكن مثلي.. لنتكامل:
"أكاد أشهق كلما تخيلت أنني يجب عليّ دائماً، أو من وقت لآخر، أن أشرح ضرورة اختلافي، سببه، ميزاته، وأجد نفسي مضطراً للدفاع عن نفسي كإنسان له خطوط حياته الخاصة، له طباعه وطريقته في التفكير، له آراؤه ومتطلباته التي ينفرد بها عن المحيطين" هذه الشكوى أصبحت مثار استغراب، مع أنها حق طبيعي من حقوق الإنسان.
"الحكمة الكبرى في الحياة تكمن في الانجذاب ناحية القطب المختلف، والميل إلى ما يكملنا لا ما يشبهنا، وحتى تقسيمات الكون وجغرافية المادة تثبت ذلك"
دعنا نتخيل معاً كيف سيبدو العالم فيما إذا كنا نسخاً مكررة عن بعضنا، إذا كانت لنا ذات الطباع، ذات الاهتمامات، ذات الوظائف... إلخ. إن أول ما يمكن أن نعاني منه هو أن هذا العالم سيصغر جداً ويضيق بنا، وأهم ما يمكن أن نعاني منه في حينها هو النقص العارم الذي سيجتاح كل شيء، وأقسى ما يمكن أن نعاني منه هو انفجار احتياجاتنا التي لا يلبيها الواقع، قد لا أكون مدركة لما هو أبعد وأقسى وأصعب، لكنني متأكدة من أنه لا توجد ميزات في التشابه أبداً.
لعل النفور النفسي من الشخصية التي تصر على حفظ الاختلاف واحترامه... يجعلنا تلقائياً نتبنى الزعم بأن الأرض تضيق بالمختلفين، ولا يمكن أن تجمعهما طاولة حوار ولا غرفة ولا عالم بأكمله. بينما الهدف والحكمة الكبرى في الحياة تكمن في الانجذاب ناحية القطب المختلف، والميل إلى ما يكملنا لا ما يشبهنا، وحتى تقسيمات الكون وجغرافية المادة تثبت ذلك.
الاختلاف منحة التكامل:
في الحقيقة، إن ما ينقصنا لاستيعاب الاختلاف هو الفهم، وليس القانون. والدليل على ذلك أننا نستمتع ونتفنن كبشر في كسر القوانين، وتجاوزها والخروج عنها، وصناعة الشغب من أجل الشغب وحسب غالباً، لكننا لن نستطيع استيعاب فكرة أن الآخر لا يمثل خطراً وأن الاختلاف أصلٌ لا حلٌ بديلٌ، إلا إذا اقتربنا من هذا الآخر، وحاولنا إذابة الجليد بيننا وبينه.
"لن نستطيع استيعاب فكرة أن الآخر لا يمثل خطراً وأن الاختلاف أصلٌ لا حلٌ بديلٌ، إلا إذا اقتربنا من هذا الآخر، وحاولنا إذابة الجليد بيننا وبينه"
حمل التاريخ إلينا عدة أوجه للاختلاف، منها السلبي ومنها الإيجابيّ، لكن التأمل فيها يقودك لاصطياد ميزات اختلافك مع الآخرين بمهارة، ثم تعزيز نفسك بالشكل الذي تريد أنت أن تظهر به. وحين يصفق الآخرون لمن يستعد لتقبل الاختلاف ستشفق عليهم بدل أن تؤيدهم وتصفق معهم؛ لأن استدراك الأصل والتصفيق للفوز به يعني بشكل مباشر أو غير مباشر أن كل مقومات الإنسانية تنحدر، وأن ترميم القيم صار ضرورةً ملحّة.
وفي حقيقة الأمر، فإن لدينا قيم تحتاج إلى إعادة نظر، فنحن قد نؤمن بالاختلاف وضرورته ونردد الحكم والأمثال والمأثورات بدون أدنى درجة من الوعي لمراميها وأبعادها، لأننا حين ننظر للآخر نفكر بشكل غريب:
• الاختلاف سيبرز جمالي، أو سيفضح قبحي: دون التفكير أبداً في أن الاختلاف يمكنه أن يكمل نقصي ويعزز نقاط قوتي.
• سيزيد اعتداد الآخر بنفسه لدرجة الغطرسة والاعتقاد بأن الآخر اكتشف بأنه على خطأ وها هو يلجأ إلى شاطئي مختاراً.
• سيظن أحد الطرفين أن دعوة الآخر لتقريب وجهات النظر ما هي إلا باب من أبواب التخلي عن رأيه وفكرته، وطلب اللجوء إلى شرعية فكرة الآخر.
أعتقد أخيراً أن وجود أحدنا مستند وقائم على وجود الآخر، فلن تقتل الفكرة الفكرة بل ستصقلها للأفضل، ولن ينهي الرأي الرأي بل سوف يبرزه ويسلط عليه الضوء، ولو كانت الاختلافات الفطرية ستنهي وجود أيٍّ منا ما كانت لتكون، فليس علينا أبداً توحيد الألوان ولا محاربة الاختلاف، بل إجادة البحث عن الحد الأدنى من القواسم المشتركة بين الأشياء وإبراز جمالها بشكل يليق بهذه الهبة الربانية الكبرى.