معادن البناء الدعوي

الرئيسية » بصائر الفكر » معادن البناء الدعوي
maxresdefault5

للمعادن في الحياة جدول دوريٌّ يحتويها ويصنّفها، جدول يضع المعادن في مجموعات وتكتلات وزمر عديدة، وهكذا هو البناء الدعوي ففيه الناس معادن يتشابهون فيما بينهم ويتفاوتون كما في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية.

وفي الحديث النبوي الشريف الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه}.

"النفاسة والخسة في معادن الناس لا علاقة لها بالنسب والحسب والقبيلة والدولة، وإنما نفاسة الناس وخستهم، بحسب ما معهم من التقوى والدين والخوف من الله"

والمعدن: هو الشيء المستقر في الأرض، وكلنا يعلم بأن المعادن منها النفيس ومنها الخسيس، وكذلك الناس فمنهم من معدنه نفيس، ومن الناس من معدنه خسيس، والنفاسة والخسة في معادن الناس لا علاقة لها بالنسب والحسب والقبيلة والدولة، وإنما نفاسة الناس وخستهم، بحسب ما معهم من التقوى والدين والخوف من الله {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.

إذن نحن أمام حقيقة نفسية اجتماعية يقرّها النبي عليه الصلاة والسلام، بتنوع أحوال الناس واختلاف طبائعهم، فستجد منهم الرفيق اللين، ومنهم الصلب الخشن، ومنهم الكريم كالأرض الطيبة الخصبة، ومنهم البخيل كالأرض الجدباء، وفي تصنيف آخر يقول الإمام البنا رحمه الله: "الناس رجلان: رجل يعمل ما يعمل من الخير، أو يقول ما يقول من الحق، وهو يبتغي بذلك الأجر العاجل، والمثوبة الحاضرة، من مال يجمع، أو ذكر يرفع، أو جاه يعرض ويطول، أو لقب ومظهر يصول به ويجول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران:14.
ورجل يعمل ما يعمل ويقول ما يقول لأنه يحب الخير لذاته، ويحترم الحق لذاته كذلك، ويعلم أن الدنيا لا يستقيم أمرها إلا بالحق والخير، وأن الإنسان لا تستقيم إنسانيته كذلك إلا إذا رصد نفسه للحق والخير: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3]. ولأنه يحب الله ويخشاه ويرجوه، ويقدر نعمته ـ عليه في الوجود والقدرة والإرادة والعلم وسائر ما منحه إياه، ففضله بذلك على كثير ممن خلق تفضيلا، وهو يعلم أن الله قد أمر بالخير فقال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج:77]، وأوصى بالثبات على الحق، فقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، فهو لهذا يرجو ما عند الله، ويبتغي بقوله وعمله مرضاته وحده".

"على الدعوة الإسلامية أن تُعنى بمعرفة أحوال الناس وصفاتهم كي تستطيع استيعابهم واستثمار طاقاتهم والتعامل معهم على اختلاف صفاتهم وطبائعهم"

ولطالما كان المجتمع في الحقيقة هو انعكاس لشخصيات المجموعة التي تقود جيل الناس في تلك الحقبة أكثر مما هو انعكاس للقوانين المسنونة التي يراد لها أن تنظم الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كان لزاماً على الدعوة الإسلامية أن تُعنى بمعرفة أحوال الناس وصفاتهم في صفوفها الداخلية أو على صعيد الناس المحيطين بها، كي تستطيع استيعابهم واستثمار طاقاتهم والتعامل معهم على اختلاف صفاتهم وطبائعهم.

فمنهم الإيجابي ذو الروح السامية والهمة المتوقدة، ومنهم السلبي صاحب النظارات السوداء صاحب الاعتراض والنقد، وترى فيهم صاحب السمت الإيماني المتصل بالله، وعلى جانب آخر متساهل يدّعي وسطية في أمور الشرع بين طيات حياته، ومن الناس مَن يقعد بعد نشاط فيفتر ويختفي كما العناصر الخاملة، فهي خاملة في الظروف الاعتيادية وقد تحولها بعض العوامل الخارجية إلى عناصر فعالة، وهناك من الناس أيضا الحاذق العاقل الفطن الذي تُشابه صفاته صفات العناصر المشعة التي تكون دائماً مصدر عطاء وإشعاع فتكون محوراً يتأثر به كثير من الناس ومصدر استقطاب لكثير ممَّن حوله، وقد تطول قائمة المعادن وتقصر؛ ففي كل شخص تقابله أو تعرفه معدن.

"لابد من وضع الخطط المناسبة لاستثمار تنوع المعادن الفريد بين الأفراد؛ لتمتين البناء الدعوي من خلال احتواء جميع المعادن واجتذابهم على اختلاف عقولهم وأمزجتهم وطبقاتهم وثقافاتهم"

لذا كان لابد من الالتفات إلى المجتمع عامة والمجتمع الدعوي ومكوناته خاصة، ووضع الخطط المناسبة لاستثمار تنوع المعادن الفريد بين أفرادها؛ لتمتين البناء الدعوي من خلال احتواء جميع المعادن واجتذابهم على اختلاف عقولهم وأمزجتهم وطبقاتهم وثقافاتهم، وتوجيه العناصر نحو بعضها لتحفيز الخامل منها، والحفاظ على العناصر المشعة المعطية الباذلة فيها، للوصول إلى التكامل الدعوي المطلوب والمنشود.

ويقول الأستاذ الراشد: "ولقد علمتنا الأيام دروساً غير التي كانت تمليها علينا الحماسة البريئة والتصلبات المعاندة، ولقنتنا التجربة أن نعين على تواجد المحايد إن يئسنا من مجيء المسلم، في الوظيفة الصغيرة أو الحكم الكبير، وأن نصبر على الغافل الشهواني ابن يومه إن نازعه الملحد المخطط البعيد الأهداف، وأن نقدر أن الملحد المفسد سليل الأشراف أقل شرا من جناح آخر في حزبه يضم الرعاع وسفلة القوم، إذ ربما كان في الأول بقية ترفع وإباء عن الدنايا والقسوة يفتقدها الغوغاء.

فمن وعظته أيامه بمثل هذه الموعظة كان حرياً به أن يحرص على أي جهد إسلامي في المجتمع وأعمال الدولة مهما كان ثانويًا وصغيرًا ووقتيًا أو مخلوطًا بأخطاء، لا يزهد بلفظ إصلاح واحد، بل يرحب به، ثم يواصل سيره نحو الأحسن، ويحث غيره من أهل النقص هؤلاء على مشاركته في هذا السير نحو الأحسن".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
مدون أردني مهتم بالشأن التربوي

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …