لا زلنا مع مضاعفات الأزمة الحالية المتفاعلة على مستوى جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والتي تزداد أهميتها باعتبار القيمة الروحية والتنظيمية الكبرى لجميع الإخوان؛ حيث مهد الدعوة، التي انطلقت منها إلى العالم الإسلامي، ومن ثَمَّ؛ العالم بأكمله بعد سنوات قليلة من العمل الدؤوب الذي تصدره الإمام المؤسس، الشهيد حسن البنا.
ومما صاحب هذه الأزمة من ظواهر سلبية، الافتئات الكبير الذي رافق أحاديث وتقديرات البعض، وخصوصًا من الجناح الأصغر سنًّا، والذي يتبنى الخطاب الثورة الأكثر راديكالية من بين الصف، على جماعة "الإخوان المسلمون"، كإطار تنظيمي، وإطار فكري، وكمسار عمل حركي يخدم الدعوة الإسلامية، ويسعى إلى تحقيق السياسة الشرعية.
في هذا الإطار، وجدنا الكثير من الأدبيات التي تتناول الجماعة بمعول الهدم، بالمعنى الواسع للكلمة، وبدا وكأن بعض المنظِّرين في هذا التيار، يحاولون –في ظل فشله في استقطاب الجماعة إلى المربع الذي يرغبه– أن يعمدوا إلى تشويه الأصل، والقول بأنه لم يعد له دور في عالمنا المعاصر، وأن الجماعة ما لم تتبنى وجهة النظر هذه أو تلك؛ فإن ذلك يعني أنه قد وصلت إلى منطقة الأفول والخفوت، توطئة إلى الزوال، بموجب قوانين صعود وزوال الكيانات الحضارية، والعمران الإنساني، التي وضعها الله عز وجل.
وبلا شك؛ فإن الجماعة ليست استثناءً من هذه القوانين، فهي في النهاية إحدى تجليات الخلق الإلهي، وبالتالي فهي خاضعة لقوانينه، ولكن، وبلا شك كذلك؛ فإن هذا الحديث –من خلال المضمون المتداوَل– لا يقوم على الأسس العلمية المرعية للتحليل في مثل هذه الأحوال، وفقط يبدو كقولة حق، إما يُراد بها باطل من جانب بعض المغرضين، أو في غير موضعها عن خطأ في قياس وتوصيف الوضع والحالة، وفي كلا الحالتَيْن؛ فإن صاحب هذه الفكرة مخطئ، ويتحرك إما لرِيَبٍ في نفسه، أو كان لابد عليه ألا يقدِم على تقديم تحليل لا يملك أدواته.
"لابد من الاعتراف بأن هناك حاجة إلى الكثير من المراجعات، وبالتالي المحاسبات، في إطار مبدأ الشفافية والمحاسبة، في ظل ما جرى من أخطاء يجب الاعتراف بها"
وبالرغم من تهافت هذا المنطق؛ إلا أنه لا بأس من مناقشته، من أجل فهمه، وبالتالي تفنيده وفق قواعد القياس المنطقي السليم، من أجل تبيان حقيقة الصورة في هذا الإطار.
أولاً لابد من الاعتراف بأن هناك حاجة إلى الكثير من المراجعات، وبالتالي المحاسبات، في إطار مبدأ الشفافية والمحاسبة، في ظل ما جرى من أخطاء يجب الاعتراف بها، في إدارة المشهد في مصر، منذ ما بعد تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك، أي بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وحتى الأزمة التي سبقت الانقلاب، وما بعد جريمة فض اعتصامَيْ رابعة والنهضة، وما تلا ذلك من أحداث.
ولكن هذه المراجعات والمحاسبات؛ لابد من أن تتفق في صيروراتها مع ما تحدده الأطر والسياقات المؤسسية المتفق عليها، وإلا تحولت الأمور إلى شكل من أشكال التعويق ومعاول الهدم المقصود، وحتى لو أن هذه الأطر والسياقات قد تعطلت؛ فإن الأمور تبقى أن تكون في إطار الصف لمناقشتها، وعدم الخروج بها إلى حالة الخصومة التي تطالعنا بها وسائل الإعلام في الوقت الراهن.
ترى هذه التقييمات أن جماعة الإخوان المسلمين، قد بدأت في التحلل، وتسري عليها أعراض الشيخوخة، وبالتالي فهي يجب أن تختفي، ويتم بناء الجماعة من جديد على أسس جديدة، بل إن البعض ذهب إلى أن المطلوب ليس إعادة بناء الجماعة من جديد، وإنما بناء جماعة جديدة، تعمل وفق الرؤى التي يتبناها.
المشكلة في هؤلاء، هو أنهم لم يقدموا أية رؤى للإصلاح، وكل ما يدعون إليه هو الهدم، كما أنهم يعتبرون أن ما يدعون إليه هو الصواب المطلق، وأن الباقين على خطأ طيلة الوقت، بالرغم من أنه على مستوى العديد والقطاعات؛ لا يزال أصحاب هذا الرأي أقلية داخل الجماعة، ولا يمكن بحال من الأحوال فرض رؤية الأقلية على الأغلبية.
كما أن منطق هؤلاء يحمل بعض التناقض؛ فهم يطرحون شعارات تتعلق بالإصلاح السياسي والديمقراطي في مصر، بينما يتجاوزونه في المواقف التي تخصهم، ولا ينزلون على رأي الأغلبية.
كذلك يقدم هؤلاء رؤية تقوم على أن الجماعة في الوقت الراهن، ما لم تعمد إلى تبني "إصلاحات فورية" وفق ما يطرحونه من مواقف؛ فإنها سوف تعرض نفسها إلى عوارض التحولات الإقليمية والدولية الراهنة، وما يترتب عليها من تأثيرات على الدول والأنظمة والجماعات في منطقة الشرق الأوسط.
بطبيعة الحال هذا التحليل فيه قصور من أكثر من زاوية، فهؤلاء يتجاوزون عن أن الإخوان المسلمين – بقطع النظر عن الموقف القيمي منها، بالتأييد أو المعارضة، الانتماء أو عدم الانتماء– في الاعتبار الموضوعي، كلٌّ مختلف عن الدول، وبالتالي؛ فإن لها قواعد خاصة بمثل هذه النوعية من الجماعات، فيما يتعلق بالصيرورات، وقوانين الحركة والصعود والهبوط، مختلفة عن تلك التي تحكم الدول والكيانات السياسية المماثلة.
"الجماعات من هذا النوع ليست دولة محدودة بحدود، وأساسها أفكار وقيم، ووجودها لا يرتبط بأمور قانونية أو دستورية، أو بإقليم محدد، ولا تضم مجموعات بشرية متمايزة، وتملك إطارًا للتربية، يجمع ويوحِّد الصف"
فالجماعات من هذا النوع –على المستوى الموضوعي العام– ليست دولة محدودة بحدود، وأساسها أفكار وقيم، ووجودها لا يرتبط بأمور قانونية أو دستورية، أو بإقليم محدد، ولا تضم مجموعات بشرية متمايزة، وتملك إطارًا للتربية، يجمع ويوحِّد الصف، بخلاف الدول القومية الحديثة التي تقوم على أساس التنوع والتعدد في الجماعات البشرية والمجتمعات الفرعية التي تضمها.
ومن بين أوجه التميُّز في حالة الإخوان المسلمين، أن ما يجمع أفرادها –بجانب الإطار التربوية والفكري والتنظيمي– رابطة هي من أقوى الروابط، وفق كل الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية، وهي رابطة الدين، والتي تترافق في كثير من الأحيان، على مستوى التنظيمات القُطْرية، مع رابطة أخرى وهي رابطة القومية والدم.
في المجمل؛ فإن جماعة الإخوان المسلمين تجمع بشري مختلف، يحمل سمات متميزة، ومتمايزة عن الدولة كتجمع بشري بدورها، من ثَمَّ؛ فقد وقع هؤلاء في أخطاء قياس عميقة، عندما أسقطوا قوانين العمران الخاصة بالدول، صعودًا وهبوطًا، على جماعة الإخوان المسلمين.
وهذا الكلام تحدوه الكثير من أدلة الأمر الواقع، والتاريخ، فالجماعات من نوعية الإخوان المسلمين، تتسم بالمرونة، والقدرة على التعامل مع المتغيرات، خلافًا للدول، التي قد تتعرض للاحتلال، أو التقسيم، أو الاندماج، وما سواها من صور ظهور واختفاء الدول ذات الوجود الجيوسياسي.
فالجماعة مرَّت بأربعة أنظمة عالمية، تعددية قطبية قبل الحرب العالمية الثانية، ثم ثنائية قطبية بعدها، خلال مرحلة الحرب الباردة، ثم منظومة غير واضحة أو مستقرة، ما بين العام 1990م وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م؛ حيث عرف العالم نظامًا دوليًّا يتسم بالسيولة، قبل أن يمر العالم بعشرية أحادية القطبية قادتها الولايات المتحدة، قبل أن تقود ثورات الربيع العربي، وما رافقها من أزمات وتحولات، إلى بلورة نظام دولي تعددي.
" خرجت الجماعة من كل الأزمات والعوائق التي مرت بها، وكانت قادرة على التعامل مع مستجدات الحدث، واستيعاب الأزمات، من خلال منظومة إدارية وفكرية وتربوية"
على المستوى الداخلي، مرَّت الجماعة في مصر، أو في الدول العربية والإسلامية الأخرى، بعشرات الأنظمة، ومئات الحكومات، بعضها ذهب بانقلابات وحروب أهلية، وكان للجماعة نصيب مروع من القمع الذي وصل إلى حد التصفية.
وبرغم ذلك خرجت الجماعة من كل ذلك، وكانت قادرة على التعامل مع مستجدات الحدث، واستيعاب الأزمات، من خلال منظومة إدارية وفكرية وتربوية وضع لبناتها الأولى الإمام الشهيد حسن البنا، وطورتها الأجيال التالية، التي تعلمت من الحوادث الجسام التي مرت بها.
ولذلك كانت الجماعة حاضرة في كل حوادث الأمة الكبيرة، وتصدرت مشهد العطاء، حتى في الصراع العربي-الصهيوني؛ حيث يظل الإخوان هم أول القوى الشعبية التي حاربت العصابات الصهيونية في فلسطين، ولا يزالون إلى الآن، يتصدرون المشهد في فلسطين، من خلال "حماس" و"الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948م".
وكانت الجماعة هي الأصل في ثورات الربيع العربي، وشبابها كان وقود الثورة الأساسي، مهما قال المرجفون في المدينة.
الخلاصة، أنه بعيدًا عن الانتماءات السياسية الضيقة لهذا الطرف أو ذاك؛ تبقى حقيقة أن هناك أخطاء تقدير فادحة، وهذه الأخطاء بعضها يعود إلى بواعث ذاتية، وليس لاعتبارات المصلحة، وبالتالي؛ فإن الأزمة الحقيقية في بعض الإخوان وليس في جماعة الإخوان!.