يتغيب أحد الناس عن مناسبة عائلية ما، فتبدأ سهام الانتقادات تتجه إليه من كل حدب وصوب، ويخيم سوء الظن بسحابته القاتمة على رؤوس الجميع، دون مراعاة لحال الشخص، أو التماس أي عذر له، أو حتى إحسان الظن به من باب أولى.
قال ابن سيرين: (إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا، فإن لم تجد له عذرا فقل لعل له عذرا).
وقال جعفر بن محمد: (إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذرا، فإن أصبته، وإلا، قل لعل له عذراً لا أعرفه).
عزيزي القارئ:
"التماس العذر للغير، فيه أثر كبير للقلوب، فهذا الخلُق إنما يشفي الصدور، من الحقد والضغينة، ويحميها من القطيعة، ويسلمها من كل شر وبغضاء"
تأمل معي حال هذه النملة، التي لها من العقل والتدبير أقل مما عند الإنسان بكثير، مع ذلك تراها قد عذرت جيش سليمان عليه السلام، حين أتوا على واد النمل، فقالت: {يآ أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} [النمل: 18]
فهي تدرك حجمها الصغير الذي لا يكاد يرى بالعين المجردة، وتدرك أن جسمها معرض للتحطيم، فعذرتهم، وقالت: (وهم لا يشعرون)
أما نحن، فنملك من العلم والعقل، ما لا تملكه تلك النملة الضعيفة، الصغيرة! إذن؛ ألسنا أحق منها في التماس الأعذار!!
إن التماس العذر للغير، فيه أثر كبير للقلوب؛ فهذا الخلُق إنما يشفي الصدور من الحقد والضغينة، ويحميها من القطيعة، ويسلمها من كل شر وبغضاء، ويريحها من عبء الظن السيء، الذي لا يولد إلا تنافراً بين البشر، وتتبعاً للعورات، والبحث عن الأخطاء والزلات، والكراهية بين الناس.
إن سوء الظن أمر قبيح؛ لأن فيه ترجيحاً لجانب الشر على جانب الخير، خلافاً لحسن الظن الذي يضفي الجمال على الشخص، بترجيح جوانب الخير وتغليبها على الشر ووساوس الشيطان.
حتى نتجنب سوء الظن..
"إن كانت عند أي مناً ملاحظة أو انتقاد، فالأفضل أن نحتفظ به لأنفسنا، أو إن كان به تحسين أو تغيير للأفضل، فأسر به لصاحب العلاقة، دون تشهير به"
إن في سوء الظن، ظلم للناس وتحميلهم ما لم يفعلوه، وما لم يقصدوه، وحتى نتجنب ذلك، يجب أن ندرك ما يلي:
1) الأصل في الإنسان إحسان الظن بإخوانه، فلا نحكم على أحد، إلا بعد أن نتيقن، ونتأكد من صحة الخبر من المصدر مباشرة، فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يآ أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6].
فالتأكد والتبين، هو الأساس الذي شرعه الله لنا، في حل هذه المشاكل، وقطع الطريق على الأفكار السلبية التي تعكر صفو مجتمعنا.
2) إن كانت عند أي منا ملاحظة أو انتقاد، فالأفضل أن نحتفظ به لأنفسنا، أو إن كان به تحسين أو تغيير للأفضل، فأسر به لصاحب العلاقة، دون تشهير به، فكما قيل في المثل العربي: (النصيحة على الملأ فضيحة).
ومما قاله الشافعي في ذلك:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
3) إن تأملت في حقيقة الإنسان، وطبيعة البشر، فستدرك ما بهم من ضعف وسرعة نسيان، فستصفح وتنسى، وإن عشت ظروف أخيك كما يعيشها، ووضعت نفسك موضعه فسرعان ما ستعذره، وتعفو عنه.
"لا تبنِ أحكاماً عاجلة من شأنها أن تؤثر على العلاقة، بمجرد سوء ظن، أو تفسير غير سوي"
في النهاية..
لا تبنِ أحكاماً عاجلة من شأنها أن تؤثر على العلاقة، بمجرد سوء ظن، أو تفسير غير سوي، وإن اعتذر لك صديقك، أو قريبك، فاقبل عذره، فهذا من كرم أخلاقه، لكنه غير مضطر أن يبين لك كل ظروفه التي مر بها، وأحواله التي تقلب معها.
قال تعالى: {يآ أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم}، [الحجرات: 12].
كفانا انتقاداً وسوء ظن، لنلتمس ما طاب لنا من الأعذار، ولنتذكر المثل القائل: (كما تَدين تُدان)، فكما أسأت الظن بغيرك، سيأتي يوم يسيئون الظن بك.