الحياة كلّها ابتلاء، والابتلاء معركة مع النفس يتملك الإنسان إحكام نتائجها وتفاصيلها بما يقدّمه من أعمال خالصة لله تعالى، قال عزّ وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}. قال ابنُ عمر: تلا النبيّ صلّى الله عليه وسلم: {تَبَارَكَ الذي بيده المُلك} حتّى بلغ:{أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فقال: ((أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله)). والسرّ في (أحسن عملاً) أنَّه خالص لله، قال الفضيل بن عياض في هذه الآية: "أخلصه وأصوبه". قيل: "يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟" قال: إنَّ العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتّى يكون خالصاً صواباً؛ والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة".
ذلك أنَّ الإخلاص هو حقيقة الدين، وهو مضمون دعوة الرّسل عليهم السلام، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء}.
قال الإمام القرطبي في تفسيره: (ومنه قوله تعالى: {قل إنّي أمرتُ أن أعبدَ اللهَ مُخْلِصاً له الدّين}. وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات، فإنَّ الإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه الله تعالى لا غيره).
ما الإخلاص؟
يقول الإمام البنا: (وأريد بالإخلاص: أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله، وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة، لا جندي غرض ومنفعة، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. (الأنعام:162)، وبذلك يفهم الأخ المسلم معنى هتافه الدائم "الله غايتنا" و"الله أكبر ولله الحمد") .
" إنَّ من يرفع شعار(الله غايتنا) عليه أن يدرك ما يدل عليه هذا الشعار، وماذا ينبغي أن ينفى عن الشعار، ليكون بهذا وذاك من المخلصين"
فالله غايتنا شعارُ الذين يخلصون في أقوالهم وأفعالهم وجهادهم لله، ومعناه كما يقول الدكتور علي عبد الحليم محمود – رحمه الله تعالى- :
- الله هو المقصود من كل عمل.
- الله هو الموعد وإليه المرجع والحساب على كل عمل.
- الله هو الحقّ المبين، الذي لا يخفي، ولا يخفى عليه شيءٌ.
- الله من وراء كل قول وعمل وجهاد.
- وليس الغاية من القول والعمل والجهاد شيئاً غير الله ولا يجوز أن يكون..
- إنَّ من يرفع شعار(الله غايتنا) عليه أن يدرك ما يدل عليه هذا الشعار، وماذا ينبغي أن ينفى عن الشعار، ليكون بهذا وذاك من المخلصين.
معركة مستمرة..
هي معركة غير صاخبة تدور تفاصيلها مع النفس وبين خلجاتها، لا يعرف كنهَها إلاّ الله سبحانه، وصاحب النفس، وهي معركة قديمة منذ أن خلق الله الكون، ومستمرة إلى أن تفيض الرّوح إلى بارئها، فحين سئل الإمام عبد الله التستري (أيّ شيء أشدّ على النفس؟!). قال: (الإخلاص) لماذا؟ قال: (لأنَّه ليس لها فيه نصيب).. نعم، لا نصيب فيه للنفس!.
ويؤكّد هذا المعنى التابعي الجليل سفيان الثوري من خلال تجربته في هذه المعركة اليومية في حياته وهو العبد الصالح الورع التقي النقيّ، يقول: (ما عالجت شيئاً أشدّ عليّ من نيتي؛ إنَّها تتقلّبُ عليّ).
وهذا يوسف بن أسبط يدلّك على سلاح النصر في هذه المعركة فيقول: (تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد).
وفي جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي نماذج للقدوة والتأسي للخروج سالماً غانماً من هذه المعركة:(عن يحيى بن أبي كثير قال: تعلّموا النية فإنَّها أبلغ من العمل، وعن داود الطائي، قال: رأيت الخير كلّه إنّما يجمعه حسن النية، وكفاك به خيراً وإن لم تنصب، قال داود: والبرُّ همَّة كل تقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحبّ الدنيا لردته يوماً نيّته إلى أصله).
"أولى ثمرات الإخلاص الشعور بنشوة النصر والسعادة والطمأنينة بها"
وتُثمرُ شجرة الإخلاص..
أولى ثمرات الإخلاص الشعور بنشوة النصر والسعادة والطمأنينة بها، قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}. [الفتح: 18]. قال ابن جرير الطبري في تفسيره: (فعلم ربّك يا محمَّد، ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة، من صدق النيَّة، والوفاء بما يبايعونك عليه، والصبر معك. يقول: فأنزل الطمأنينة، والثبات على ما هم عليه من دينهم وحسن بصيرتهم بالحق الذي هداهم الله له). وقال ابن النحَّاس في تفسيره: ({فعلم ما في قلوبهم} من الإخلاص).
ومن ثماره يفتح الله لعباده المخلصين أبواب الهداية في كلّ شيء قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.[العنكبوت: 69].
ومن ثماره نزول الفرج والنجاة من الكرب والشدة، قال الله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}. [لقمان: 32].
وتبقى معركة "مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" مع النفس مستمرة، يمحّص الله بها عباده، ليفوز المخلصون بثمار يانعة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها بركة وثباتاً وهمّة وعزيمة وفتحاً مبيناً وفرجاً قريباً ونصراً عزيزاً.