“نوح”.. دروس حركية من نبي عاش قبل آلاف السنين

الرئيسية » بصائر الفكر » “نوح”.. دروس حركية من نبي عاش قبل آلاف السنين
surat naoh

لا يفتأ الإنسان السوي، صحيح العقل والإيمان، أن يقف أمام كل حوادث التاريخ، مهما مرَّ عليها من أزمنة ودهور، ومهما بدا أن هناك مستجدات عميقة قد تجاوزها الحدث؛ لكي يستفيد منها.

وتزداد أهمية هذه المسألة في الحالات التي يكون فيها الإنسان منخرطًا في إطار حركي، يتطلب في ظل طبيعته المتغيرة، والظروف المحيطة به، أن يتغير بدوره في آليات التفكير والوسائل التي يتم التعاطي بها مع الحدث ومستجداته.

ويُعتبر التعلُّم من التاريخ من أهم الآليات التي يجب أن يعتمد عليها الحركيون في أي وقت؛ حيث إن الحدث قد وقع وانتهى، وبدت مضامينه، ويتضمن في هذا الإطار –من خلال التدقيق في الأدلة الثابتة الخاصة به– أسباب النجاح والفشل، وما يجب اتخاذه وتبنيه، وما ينبغي تفاديه من قرارات، وما قاد إليه هذا القرار أو ذاك، من صيرورات بالنسبة لأصحابه.

وهو ما يُسمَّى في علم العمران والاجتماع، بدروس التاريخ، ولئن كان المفكرون والفلاسفة المتدينون يقولون: كفى بالموت واعظًا؛ فإن الحركيين يجب أن يعتقدوا في مبدأ: "وكفى بالتاريخ خير واعظٍ ومعلِّمٍ".

ومن بين القصص القرآني الذي ربما لم يحظَ بحقه من الاهتمام في هذا الإطار، قصة نبي الله نوح "عليه السلام"، بالرغم ما فيها من دروس وعِبَر، تصلح لكل زمان ومكان، وتُعتبر من أهم القصص التاريخية – ليس على مستوى قصص القرآن الكريم وقصص الأنبياء فحسب –المليئة بالدروس التي يمكن أن تخدم أي شخص يسعى خلف قضية لها قيمة دينية أو إنسانية أو سياسية عظمى، ولها تأثير على مجموعات كبيرة من البشر-.

ولا يوجد –من باب أَوْلى– من خدمة الشريعة الخاتمة، التي ارتضاها الله تعالى دينًا للناس؛ تخرجهم من الظلمات إلى النور.

"في هذه القصة، عدد من المواقف التي تحوي دروسًا شديدة الأهمية، فأولاً هناك فريضة الصبر؛ حيث بقي "نوح" ما يقرب من ألف سنة يدعو الناس إلى توحيد رب الناس".

قضى نوح (عليه السلام)، يدعو قومه ألف سنةٍ إلا خمسين، لقي فيها ما لقي من العنت من قومه، وكان من بينها مئات السنين ما أسلم معه من قومه أحدٌ، حتى أتى أمر الله تعالى، فصدع بأمر ربه، وخرج بمن آمن معه من قومه، في الفُلك المشحون من كل زوجين اثنين؛ لتبدأ حياة جديدة على ظهر الأرض، في تجربة فريدة من نوعها، بدت وكأنها إعادة إحياء لقصة خلق البشر ونزول أبينا آدم (عليه السلام) إلى الأرض، وتجربة مهمة ومبكرة للغاية – بمعايير البشر – لمرحلة آخر الزمان، ويوم البعث.

في هذه القصة، عدد من المواقف التي تحوي دروسًا شديدة الأهمية، فأولاً هناك فريضة الصبر؛ حيث بقي نوح (عليه السلام) ما يقرب من ألف سنة يدعو الناس إلى توحيد رب الناس.. {وَلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)} [سُورة "العنكبوت"].

وليس ذلك فحسب من دروس الصبر في قصته (عليه السلام)؛ حيث يبدو الصبر على أذى قومه، ويبدو الصبر على قلة عدد من آمنوا معه.

ورغم ذلك، ثابر نوح (عليه السلام)، ولم يقف عند النتائج التي هي بيد الله عز وجل، فقط قام بما عليه القيام به، وأطاع ربه في دعوة الناس مهما طال عليه العهد، بينما الآن، هناك من الحركيين من يترك الدعوة وييأس لمجرد أن مر به بضعة أعوام من دون أن يجد ثمرةً واضحةً لعمله!
الدرس الثاني من هذا الذي نقول؛ هو التسليم المطلق لله عز وجل، والطاعة المطلقة لأوامره ونواهيه، مهما كان هذا الأمر أو هذا النهي، ومهما بدت غرابته بمنطق العقل البشري القاصر.

فنوحٌ (عليه السلام)، ظل يدعو قومه مئات السنين من دون أي استجابة، وهو تسليم لأمر الله تعالى، وبدأ في بناء الفُلْك في الصحراء، وثابر على ذلك، برغم غرابة الأمر من زاوية الفهم البشري العادي، وبرغم اتهام قومه له بالجنون.

"الدرس الذي نعنيه هنا، هو الإيمان؛ فالإيمان الصحيح هو الذي يقود إلى التسليم الكامل لله، مهما كان الطلب، ما دام هو سبحانه وتعالى، الآمر الطالب"

لم يقف كثيرًا أمامهم، وقام بما أمره الله عز وجل به، وعاونه فيه من آمن من قومه على قلتهم، وهنا نأتي إلى الدرس الثالث، ولكن قبلاً نقول إن هذا الترتيب ليس ترتيب أهمية؛ فكلها في أهمية بعضها البعض، وكلها سلوكيات وأخلاق يجب على الدعاة والحركيين التحلي بها جميعًا، من دون إهمال أي جانب منها.

الدرس الذي نعنيه هنا، هو الإيمان؛ فالإيمان الصحيح هو الذي يقود إلى التسليم الكامل لله عز وجل، مهما كان الطلب، ما دام هو سبحانه وتعالى، الآمر الطالب.

وهنا نقف أمام المعجزات التي يقدر عليها الإيمان الجميل العميق، فعدد من آمن مع نوح كان قليلاً للغاية، وبرغم ذلك أنجزوا معجزة السفينة بكل ما فيها من تعب ومشقة معنوية ونفسية، ومادية فيما يتعلق بالجهد والكلفة والعمل؛ فمن أين أتوا بالأخشاب التي بنوا بها السفينة في هذه الصحراء القاحلة التي كانوا فيها؟!.. أولاً، كانوا ينتظرون مواسم نمو الأشجار بعشرات السنين، لكي يحصلوا على الخشب منها، وكانوا يسافرون بالسنين في مناطق أخرى بعيدة، من أجل جمع الأخشاب.

مئات السنين من هذه المشاق، ولم تأتِ أجيالٌ تلعن سابقتها أو تنعتها بالجهل في هذا الذي يقومون به، أو تقول عنه هباء، وما هذا الذي تفعلونه، كلا؛ فالإيمان كان عميقًا، وهو ما قاد هذه الزمرة الصغيرة العدد، عظيمة الإيمان، إلى إتمام هذا العمل، ولم يفتروا، جيلاً بعد جيل.

"لم يفقد نوح ومن معه، الثقة في الله، وفي أن نصره قريب، وإن كان قد طال عليهم الزمن بمقياس الدنيا؛ فإنه لم يطُل عليهم العهد، وكانوا في معية الله، وكان معهم هاديا وصبوراً"

فلم يفقد نوح (عليه السلام) ومن معه، الثقة في الله عز وجل، وفي أن نصره قريب، وإن كان قد طال عليهم الزمن بمقياس الدنيا؛ فإنه لم يطُل عليهم العهد، وكانوا في معية الله تعالى، وكان معهم هاديًا وصبوراً.

صبروا وآمنوا وسلَّموا، ثم جاء الاختبار الأكبر، وكان في أكثر ما يحبه المرء في الحياة الدنيا، وهم الأقربون وأقارب الدم؛ حيث تبرأ نوح (عليه السلام)، ومن معه، من أهلهم غير المؤمنين؛ حيث الله عز وجل وتوحيده والإيمان به؛ كلها أمور تجب أي اعتبار آخر؛ حيث ركب المؤمنون الفُلْك، تاركين خلفهم من كفر من آلهم، لمصيرهم الأليم؛ عذاب الغرق في الدنيا، وعذاب الحريق في الآخرة، بما كفروا وتكبَّروا.

وفي سُورة "نوح" يخبرنا الله عز وجل: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)}، بالرغم من أنه قد كان فيهم من أهله، والمنطق في ذلك واضح، فهم أعداء الله، وهم كذلك: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا (27)}، فهم إن بقوا؛ سوف يكونوا عامل إضلال وشِرْك، بينما المراد من خلق الكون والإنسان، هو إفراد الله تعالى بالعبادة، وتوحيده لا شريك له، وهذا أمر لا رادَّ لأهميته المطلقة.

بل، وفي القرآن الكريم كذلك، يبدو تبرؤ نوح (عليه السلام) من ابنه نفسه، لأنه كان من أعداء الله تبارك وتعالى، وسلَّم لأمر الله تعالى بالمطلق.
وتروي سُورة "هود" هذا الموقف في آيات عظيمات، تحمل من الدروس الكثير والكثير مما لا يحصيه القلم.. يقول الله تعالى: "وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47)".

كانت تربية النفس، على التضحية والفداء، ولذلك كانت هذه الملحمة القرآنية التاريخية، وفي النهاية تكون الراحة البالغة بعد إتمام تكليفات الله عز وجل.. "قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)".

إن في هذه القصة التي رواها القرآن الكريم من الأمور ما يجب علينا جميعًا –كمسلمين، وليس كحركيين فحسب– فهمه والعمل به، لو أردنا النجاح في مهمتنا المقدسة، والمقدَّمة على غيرها من الأمور؛ مهمة الدعوة إلى الله تعالى، وعبادته لا شريك له، وإقرار دينه وشريعته في الأرض، وتحقيق سعادة الدارَيْن للإنسانية كلها، في الدنيا والآخرة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …