الزّكاة في معناها اللغوي تعني النّماء والبركة والطهارة والصلاح، وسمّيت الزكاة لأنَّها تزيد في المال الذي أخرجت منه وتقيه الآفات. وفي الموسوعة الفقهية الكويتية: "وقيل لما يخرج من حق الله في المال "زكاة" لأنَّه تطهير للمال ممَّا فيه حق، وتثمير له، وإصلاح ونماء بالإخلاف من الله تعالى، وزكاة الفطر طهرة للأبدان". وعلّل الإمام ابن تيمية ذلك بقوله: "نفس المتصدق تزكو، وماله يزكو، يَطْهُر ويزيد في المعنى". وتطلق الزكاة على الصدقة الواجبة والمندوبة، والنفقة والحق والعفو، كما حرّره العلاّمة ابن العربي الفقيه المالكي.
والزكاة فريضة من فرائض الإسلام، وركن من أركان الدين، وهي حصة مقدّرة من المال فرضها الله عزّ وجل للمستحقين الذين سمَّاهم في كتابه الكريم، قال تعالى: {خُذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إنَّ صلاتك سكنٌ لهم}. (التوبة: 103).
هذه هي الزّكاة التي تطهّر وتنمّي وتزيد من بركة مال أصحابها حين يؤدّون الفريضة أو المندوبة منها، ولكن، هل في ما سوى المال زكاة؟! كالعلم مثلاً؟!
نعم، إنَّ في العلم على اختلاف تخصّصاته زكاة تنمّيه وتطهّره وتصلحه، فقد ورد عن الخليفة الرّاشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال: (( العلم يزكو بالإنفاق)).
فكيف تكون زكاة العلم؟
أولاً: بالعمل بهذا العلم وتطبيقه على النحو الذي يرضي الله سبحانه، ويخدم هذه الأمَّة ويرفع من شأنها، فإنَّ العلم ينادي بالعمل، فإنْ أجابه وإلاّ ارتحل. وقد كان التابعي الجليل سفيان الثوري يقول: (يا أهل الحديث زكّوا عن الحديث، فسأله سائل: كيف نزكي؟ قال: على كل أربعين حديث يعمل بحديث واحد). وكان سعيد الزهري يقول: (من عمل بحديث تعلّمه مرَّة واحدة كان من أهله).
يا أهل التخصّصات، أدّوا زكاة تخصّصاتكم في الطب والهندسة وغيرها، فإنَّ الأمَّة قد تعدّد فقراؤها في هذا العصر الذي انتشر فيه الجهل والمرض، وارتفعت فيه نسبُ وأعدادُ اللاجئين
فلا يفلحُ عالمٌ بعلمه مهما كان تخصّصه وميدانه ما لم يعمل به ويطبّق ما تعلّمه، إذ لا بدّ من العمل بعد التعلّم، فالله تبارك وتعالى أكّد على هذا المعنى وحثّ عليه في توجيهه للنبيّ عليه الصلاة والسلام فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}. (محمّد:19).
فأهل العلم جميعاً هم قدوة لغيرهم، وأسوة لأتباعهم، ولن يكونوا كذلك حتّى يكونوا عاملين بعلمهم، وإلاّ فقدوا رصيداً من علمهم ببعدهم عن أداء زكاة العلم المتمثلة في تطبيقه على أرض الواقع، وإتقانه وتقديمه للناس بكل إخلاص وتفانٍ.
ثانياً: بتعليمه ونشره بين الناس، فقد جاء التحذير من كتمان العلم، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}. (البقرة: 159). وورد التنبيه النبوي من ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار)).
وقد فهم السلف الصالح هذا المعنى، فدأبوا على أداء زكاة علمهم، فهذا بشر بن الحارث الحافي يخاطب أهل الحديث بقوله: ((يا أصحاب الحديث، أدّوا زكاة الحديث من كل مائتي حديث خمسة أحاديث)). أي: تعليمها النّاس، وقد كان شيخنا المحدّث عبد القادر الأرناؤوط - رحمه الله – يتمثّل قول بشر الحافي في كل مجالسه العامّة، فيروي على الحاضرين خمسة من أحاديث النبيّ عليه الصَّلاة والسّلام مع شرحها ومعانيها التربوية.
ونستعير هنا معنى قول بشر الحافي لنختم به حديثنا، فنقول: يا أهل التخصّصات العلمية، أدّوا زكاة تخصّصاتكم في الطب والهندسة والحساب والعلوم الإنسانية وغيرها، فإنَّ الأمَّة قد تعدّد فقراؤها ومحتاجوها في هذا العصر الذي انتشر فيه الجهل والمرض، وارتفعت فيه نسبُ وأعدادُ اللاجئين والمهجّرين، وازدادت حاجتُهم لمختلف تخصّصات العلم والمعرفة..
إنَّ مجالات زكاة العلم مفتوحة، وأصناف مستحقيها باتت معروفة، فما على أهل العلم على اختلاف تخصّصاتهم إلاّ المبادرة لتأدية زكاة علمهم وتخصّصهم، لتنمو معارفهم وتتطّهر منابعهم وتزكو مداركهم، ويرتفع شأنهم عند الله سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. (المجادلة: 11).