أنفاسه المتهدجة بفعل إضرابه المتواصل عن الطعام خطفت أنفاس الخلق إليه فكان بحق أيقونة للصبر والثبات والتضحية والفداء وإغاظة الأعداء.
لم يكتف محمد القيق بتلك الملحمة التي سطرها تتويجاً للملاحم البطولية التي يخوضها أبناء شعبنا على أرضنا المباركة فداءً للأقصى ودفاعاً عن طهر المسرى، فقد تغلغل عميقاً في تاريخنا المجيد ليستعيد شيئاً من إشراقاته ويجلب لنا قبساً من أنواره..
إنه يحاكي قصة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الذي عبد الله وحده قبل أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وأبى على قبيلته أن تستحل الأشهر الحرم فهجرها مع أمه وأخيه، وأوصله الله تعالى إلى مكة ليمنّ عليه بنعمة الإسلام، وعن ذلك يقص علينا ما جرى له عند دخوله مكة سائلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح مسلم: (فأتيتُ مكةَ. فتضعفتُ رجلًا منهم. فقلتُ: أين هذا الذي تدعونَه الصابئَ؟ فأشار إليَّ، فقال: الصابئُ. فمال عليَّ أهلُ الوادي بكل مُدْرَةٍ وعظمٍ. حتى خررتُ مغشيًّا عليَّ. فارتفعتُ حينَ ارتفعتُ، كأني نُصُبٌ أحمرُ. قال فأتيتُ زمزمَ فغسلتُ عني الدماءَ، وشربتُ من مائها. ولقد لبثتُ، يا ابنَ أخي! ثلاثين، بين ليلةٍ ويومٍ. ما كان لي طعامٌ إلا ماءَ زمزمَ. فسمنتُ حتى تكسرتْ عُكَنُ بطني. وما وجدتُ على كبدي سُخْفَةَ جوعٍ).
أما رأيتم محمد القيق وقد أصبح معلماً لكل تائقٍ للحرية متطلع لفجرها الوضاء، كحال أبي ذر رضي الله عنه وقد شبَّه نفسه بالنُّصُب الأحمر. أما رأيتموه يعبُّ من ماء زمزم ليخرج علينا الشيخ كمال الخطيب ويفجر المفاجأة في وجه كل متشكك مرتاب أن من أسرار ثبات محمد القيق وبقائه على قيد الحياة إيمانه بخالقه وصدق نبيه صلى الله عليه وسلم حين قال: "ماء زمزم لما شُرب له"، وقوله لأبي ذر رضي الله عنه في الموقف السابق الذي ذكرناه: "إنها مباركةٌ، إنها طعامُ طُعْمٍ". ذكر الشيخ الخطيب أن أهالي فلسطين المحتلة منذ عام 1948م أخذوا يأتون للقيق بماء زمزم بنية صموده وثباته، وكان هو يعلم أن هذا الماء هو ماء زمزم فكان يشربه بنية الثبات وقهر الأعداء، فكانت المفاجأة التي حيّرت الأطباء كما ذكر ذلك الشيخ الخطيب، أن الأطباء أخبروه بأن الحد الأقصى لبقاء الإنسان على قيد الحياة دون طعام وشراب إلا الماء بدون أملاح هي 72 إلى 75 يوماً، وأن بقاء محمد القيق حياً بعد تجاوزه 94 يوماً يعد سابقة لم تسطر في كتب الطب، وحالة فريدة أسقطت كل نظريات الطب!!
أعلن القيق للمشفقين عليه من أحبابه، والمتربصين به من أعدائه ألا تهاون مع المحتل وممارساته، رسالة لكافة الأسرى أن يتشبثوا بكافة حقوقهم إلى آخر رمق ولا يفرطوا بها
وأمام ذلك الشموخ المستلقي على فراش التحدي رافعاً إشارة النصر بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الإصرار والتحدي، فإننا نستذكر لحظات الفرح والسرور تملأ قلب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق بإسلام أبي ذر رضي الله عنه فكان من أمر الصدِّيق رضي الله عنه أن قال: (أَتْحِفْنِي بِضيافتِه اللَّيلةَ) -أي: خُصَّنِي بها وأكْرِمْنِي بذلك- قال أبوذر رضي الله عنه: "فَانطلقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ وانطلقْتُ معهما فَفتحَ أبو بكرٍ بابًا، فَجعلَ يَقبضُ لنا مِن زَبيبِ الطَّائفِ، وكان ذلك أوَّلَ طعامٍ أكلْتُه بها". وحق على كل من عرف وتابع جهاد القيق أن يسابق إلى إكرامه وحسن ضيافته هو وزوجته الصابرة المصابرة، التي ضربت أروع الأمثلة في الوفاء والتماسك ومشاركة الزوج ومساندته في مسيرته الجهادية.
وقد كان من إكرام الله تعالى لأبي ذر أن أسلم أخيه ثم أمه على يديه وتبعهم قبيلته بكاملها حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غِفارٌ غَفرَ اللهُ لها وأَسلَمُ سالَمَها اللهُ" فأعلى الله قدره وصيته حيث قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أقلَّتِ الغبراءُ ولا أظلَّتِ الخضراءُ من رجلٍ أصدقَ لَهجةً من أبي ذرٍّ".
وهاهو محمد القيق بصبره وصموده وثقته بربه يبث رسالة الواثق بربه بلهجة صادقة حازمة أعيت المحتل وأربكته وأذلت كبرياءه وصفعت غروره، أعلن فيها للمشفقين عليه من أحبابه، والمتربصين به من أعدائه ألا تهاون مع المحتل وممارساته، ولا خضوع لابتزازه أو استكانة لشروطه وإملاءاته، رسالة لكافة الأسرى والمعتقلين في زنازين المحتل أن يتشبثوا بكافة حقوقهم إلى آخر رمق ولا يفرطوا بها.
ثبت القيق فأكرمه ربه بانتصارٍ مدوٍ على سجانيه والتفافٍ شعبيٍ وإنسانيٍ كبير معه ليضيف بذلك صفحة مضيئة من سفر المجد الذي يخطه أولئك الذين نذروا أنفسهم لتطهير فلسطين من الأعداء وإعادة الأقصى لأمة الإسراء.