كانت الدورة السابعة والأربعين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، التي انتهت مؤخرًا، بمثابة دورة استثنائية على مختلف المستويات، وخصوصًا على مستوى الحضور ومبيعات الكتاب؛ حيث شهدت تلك الدورة زيادات بنسب تقترب من الضعف، عن دورة العام الماضي 2015م.
وبالرغم من أن هذه الدورة لم تخلُ من سلبيات، مثل منع كتب الإخوان المسلمين، وعدم وجود ضيوف كِبار في الفعاليات الثقافية التي تمت؛ إلا أنها أفرزت الكثير من الظواهر التي يجب على القائمين على أمورنا التربوية والتنشئة الفكرية في الحركة الإسلامية، أن يأخذوا منها بعض الدروس والتعامل معها في مساقات التربية والتلقين المختلفة في إطارنا الحركي.
سبق وأن تناولنا في موضوعات سابقة، بعض الظواهر الخاطئة التي يتعامل بها الشباب مع قراءتهم، وكثيرًا ما تكون معايير الاختيار والتقييم، إما الناشر أو الكاتب، أو أمورًا أكثر سطحية مثل غلاف الكتاب أو عنوانه، وقلنا إن هذه الظواهر بحاجة إلى إعادة هيكلة لذهنية الشباب فيما يتعلق بالأسس والاعتبارات التي يبنون عليها خياراتهم في مجال القراءة.
إلا أن الظاهرة الأكثر حاجة إلى معالجة، هي تلك التي ترتبط بقضية لماذا تقرأ؟!.. وما هي بواعث علاقتك بالكتاب؟!..
كان من بين المشاهد التي لاحظناها من خلال سلسلة من النقاشات مع بعض الصف داخل الحركة الإسلامية، وخصوصًا الشباب، أن اقتناء الكتاب في حد ذاته غاية، وهذا أمرٌ غير مقبول؛ فقد يكون اقتناء الكتاب هدفًا، لكنه لو تحول إلى غاية انتهائية؛ فهذا يعني الهباء والعبث.
الكتاب وسيلة من ضمن وسائل المعرفة، وبالتالي؛ فإن مطالعته واقتناءه لابد وأن يرتبطا بأمور تالية، مثل توسيع المدارك أو اكتساب المعلومة جديدة أو معرفة رأي سديد
فالكتاب وسيلة من ضمن وسائل المعرفة، وبالتالي؛ فإن مطالعته واقتناءه لابد وأن يرتبطا بأمور أخرى تالية، مثل توسيع المدارك أو اكتساب المعلومة جديدة أو معرفة رأي سديد، وغير ذلك.
يرتبط بذلك بعض المظهرية في التعامل مع الكتاب وقضية التحصيل المعرفي.. أنا جميل ومثقف لأنني: اشتريت كتبًا.. ذهبت إلى معرض الكتاب.. حضرت بعض الفاعليات.. التقطت بعض الصور مع "كُتَّاب كِبَار".. وهذا آخر المطاف بالنسبة لهم؛ بعض المظاهر وكفى.
الظاهرة الأخرى السلبية هي "فيليا الموضوع"؛ حيث نجد أن غالبية اهتمامات أبناء الحركة الإسلامية إما موجَّهون في هذا الأمر؛ أي يستجيبون لاختيارات مراكز البحوث ووسائل الإعلام والمعاهد التي تتبنى خطاب الحركة الإسلامية أو تدعم قضاياها، أو أنهم موجهون بحكم الانتماء؛ فتكون غالبية القراءات إما لكتب التراث أو تلك التي تتناول الحركات الإسلامية المعاصرة، وخصوصًا الحركات السلفية، العلمية والجهادية، تأثرًا بتطورات الأحداث الأخيرة في العالم العربي والإسلامي.
فلا نجد التنويع المطلوب في الاطلاع، كما تكون تلك النوعية من الكتب في الغالب، من منبع أجنبي، في ظل المحاذير الموضوعة على تناول مثل هذه الموضوعات في المعاهد والمراكز العربية التي تسيطر عليها الدولة وسلطاتها في الغالب، وبالتالي؛ فإن المعلومات تكون غير موثوقة، وتكون الرؤى المطروحة في الغالب في هذه الكتب، غير موثوقة، وتريد توجيه فكر القارئ إلى اتجاه خاطئ، يريده أصحاب الكتاب ومن يقف وراءهم.
وفي الغالب ما نجد أن من يقفون خلف مثل هذه الكتابات المسمومة التي تشوه الصورة الحضارية للإسلام الحركي، مراكز بحوث مرتبطة باللوبي الصهيوني في الغرب، أو بدوائر الأمن القومي واليمين المتطرف في الولايات المتحدة.
وعلى إدراك هذه المراكز والمعاهد لأهمية دورها هذا في تشويه وعي الأمة؛ فإنها قامت بافتتاح مقار لها في عدد من الدول العربية، من أجل تيسير مهمتها، وتوفير الوقت اللازم لترجمة ما تنشره، وإنتاجه، بدلاً من ذلك، باللغة العربية.
صار المنتج الأجنبي حاضرًا بقوة في حياتنا الفكرية والثقافية، ورافدًا مهمًّا من روافد تشكيل الوعي المعلوماتي والفكري للأجيال الجديدة
صار المنتج الأجنبي حاضرًا بقوة في حياتنا الفكرية والثقافية، ورافدًا مهمًّا من روافد تشكيل الوعي المعلوماتي والفكري للأجيال الجديدة، وللأسف صار شعار هذا المركز أو ذاك، أمرًا كافيًا لترويج مطبوعاته، في ظل جودة الصورة وكفاءة المنتَج، وهي قضية مهمة كذلك يجب الالتفات إليها في أقنيتنا التربوية في الحركة الإسلامية؛ حيث يجب تقديم البديل الفعال والجذاب كذلك في طريقة تقديمه، وفي محتواه، وفي التوعية من الأساس، بخطورة الانقياد لمثل هذه الأقانيم الزائفة!
من بين الظواهر السيئة كذلك، اقتصار الشباب في القراءة على مجرد التحصيل المعلوماتي، من دون التركيز في القراءات على الخطوة التالية للحصول على المعلومة، وهي استغلالها في تطوير الذهن والفكر بالقراءة، وهو أهم من مجرد حشر معلومات قد لا أستفيد بها.
بلا شك أن التحصيل المعلوماتي أمر مطلوب، بل وضروري، ولكنه ليس مطلوبًا أو ضروريًّا في حد ذاته؛ فما لم يتم توظيف المعلومات في إطار معرفي شامل، أي يعطي صاحبه الرؤية والفهم اللازمَيْن للتفاعل مع الواقع والظواهر المحيطة به، والقدرة على ذلك؛ فإنه لا يكون للمعلومات أي لزوم أو ضرورة.
ولو أعدنا التأكيد على مراتب سُلَّم الحكمة، سوف نجد أن المعلومات، تأتي في المرتبة الثانية للأهمية، بينما المعرفة، وتعني الإدراك والقدرة على الفهم، في المرتبة الثالثة، ثم الحكمة، والقدرة على التحكُّم الظواهر المحيطة، وتغيير ما ينبغي تغييره منها؛ في قمة هذا السُّلَّم.
إذًا، المعلومات هي خطوة لازمة لما بعدها، والوقوف عندها؛ يعني عدم القدرة على الفهم أو التغيير، بينما رسالة الإسلام الأولى، هي التغيير، وبالتالي؛ فإن هدف الحركة الإسلامية الأول، هو معرفة كل ما يمكن أن يقود إلى التغيير، وتوظيفه بالشكل السليم الذي يحقق رسالة العمران، وعبادة الخالق عز وجل، والدعوة إلى دينه، ونشر شريعته.
أنت تقول إنك حركي، وتعمل في إطار خدمة مجتمعك ووطنك ودينك، حسنٌ، كل هذا من جميل الأمور، والأشياء التي يأجرك الله تعالى عليها، متى أخلصت فيها النية، خير الجزاء.. ولكن: ماذا فعلت لتطوير حركتك إذًا، وترشيدها؟!.
كل ما تفعل هو أن تستجيب إلى شهرة مراكز البحوث، والأسماء الأجنبية، من دون ترسيخ أي قدرة ذاتية على التفكير والفعل، وهي من أخطر مشاكل الحركة الإسلامية في الوقت الراهن؛ أننا نفتقر إلى أصحاب المبادرات والأفكار الجديدة، ومن ينطلقون في الآفاق البعيدة لحلول جديدة واقعية لمشكلات حركية.
المطلوب ترسيخ ثقافة جديدة للقراءة، تقوم على أساس تحرير الذهن من موروثات الماضي، مع عدم الانفصال عنه، وتكوين ثقافة أصيلة بعيدةً عن إملاءات الأجنبي
إن المطلوب ترسيخ ثقافة جديدة للقراءة والاطلاع، تقوم على أساس تحرير الذهن من موروثات الماضي، مع عدم الانفصال عنه، وتكوين ثقافة أصيلة بعيدةً عن إملاءات الأجنبي، وأقانيم المراكز البحثية ودور النشر المتسأجَرة لتشويه وعي الجيل الجديد.
ثقافة تقوم على أساس فهم الواقع والتعامل معه بالمفاهيم الحركية الواجبة، أي توظيفه في حال كونه يتواءم مع المشروع الإسلامي الحضاري، ويخدمه، أو تغييره لو تضاد معه؛ لا أن نقف أمام ثقافة الحشو المعلوماتي، وثقافة الاستظهار فحسب، والتي لن تفعل شيئًا سوى تفريخ أجيال تشبه أجيال الأميين المقنَّعين الذين تخرج المدارس العربية الملايين منهم كل عام!..