"يقال: إن لذة العطاء أعظم من لذة الأخذ" ولا يعرف معنى هذه اللذة إلا من نال حظاً منها، ولذا كان مما حث عليه الإسلام هو مساعدة الآخرين والسير في حاجاتهم وإدخال السرور في نفوسهم، وهذه الأفعال تعود على صاحبها بالخير الدنيوي والأخروي الكبير.
في زمن نحياه يقول فيه الكثيرون "نفسي نفسي"، ويتهرب الكثيرون من الواجب المنوط بهم للجوار والأقرباء والإخوة وأبناء الدين، كيف يمكن أن نحيا لنكون في حاجات الإخوان حتى يكون الله سنداً لنا في حاجاتنا والمفرج لكروبنا؟.
حقيقة التكافل الاجتماعي..
يشير الدكتور في علوم الحديث الشريف وإمام وخطيب مسجد خضر عطية في عمّان، الدكتور محمد جزر إلى أن الإسلام اهتم بشكل كبير ببناء المجتمع المتكامل وحشد في سبيل ذلك جملة من النصوص والأحكام لإخراج الصورة التي وصف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك المجتمع بقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
ويشير الدكتور جزر في حديثه لـ"بصائر" بأن التكافل الإجتماعي هو أن يكون أفراد المجتمع مشاركين ف

ي المحافظة على المصالح العامة والخاصة، ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية، بحيث يشعر كل فرد فيه أنه إلى جانب الحقوق التي له، وأن عليه واجبات للآخرين، وخاصة الذين ليس باستطاعتهم أن يحققوا حاجاتهم الخاصة، وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهـم.
تفريج الكربات من أفضل العبادات:
ويؤكد الدكتور جزر على أن تفريج الكربات من أفضل العبادات، ومن الأحاديث النبوية التي تُوَضِّح فضل التكافل في المجتمع المسلم والحثّ عليه، ومكانة ذلك في الإسلام ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا [أي: فني زادهم] فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْـمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ". قال ابن حجر في الفتح: أي هم مُتَّصِلُون بي. وذلك غاية الشرف للمسلم.
كما كان منها - أيضًا - ما رواه عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْـمُسْلِمُ أَخُو الْـمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وقال صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله".
قال النووي رحمه الله: "في هذا فضل إعانة المسلم وتفريج الكرب عنه وستر زَلاَّته، ويدخل في كشف الكربة وتفريجها مَنْ أزالها بماله أو جاهه أو مساعدته". [شرح صحيح مسلم 16/135.]. وهذا هو معنى التكافل في المجتمع المسلم.
د. جزر: عدَّ الرسول عليه السلام مساعدة المحتاجين والشعور بالمسؤوليَّة تجاه أفراد المجتمع الذي نعيش فيه من أنواع الصدقات على النفس
وقد عدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم مساعدة المحتاجين والشعور بالمسؤوليَّة تجاه أفراد المجتمع الذي نعيش فيه من أنواع الصدقات على النفس، فروى أبو ذَرٍّ رضي الله عنه: "عَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ صَدَقَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ". قلت: يا رسول الله، من أين أتصدَّق وليس لنا أموالٌ؟ قال: "لأَنَّ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ... تَهْدِي الأَعْمَى، وَتُسْمِعُ الأَصَمَّ وَالأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ، وَتُدِلُّ الْـمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ الْـمُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ..." رواه أحمد (21522).
وإن مثل هذه القيم لتُعَدُّ عَلامات حضاريَّة بارزة سبق بها الإسلام كُلَّ النُّظُمِ والقوانين التي أَوْلَت هذا الأمر اهتمامًا بعد ذلك؛ فمن كان يَسْمَع عن هداية الأعمى، وإسماع الأصمِّ والأبكم؟!
ليس هناك حد معين للتكافل الاجتماعي:
ونفى الدكتور محمد جزر أن يكون هناك حد معين يقف عنده تكافل المسلم مع أخيه المسلم؛ إذ إن التكافل الاجتماعي في الإسلام لا يقف عند حدٍّ معين، وليس خاصاً بالمسلمين المنتمين إلى الأمة المسلمة فقط بل يشمل كل بني الإنسان على اختلاف مللهم واعتقاداتهم داخل ذلك المجتمع، كما قال الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، أي أن التكافل الاجتماعي في الإسلام يعد غاية أساسية تتسع دائرته حتى تشمل جميع البشر مؤمنهم وكافرهم ذلك أن أساس التكافل هو كرامة الإنسان حيث قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70].
والتكافل يتدرج ليشمل الإنسانية جمعاء، حيث يبدأ الإنسان المسلم بدائرته الذاتية ثم دائرته الأسرية ثم محيطه الاجتماعي ثم إلى تكافل المجتمعات المختلفة.
د. جزر: التكافل الاجتماعي في الإسلام ليس خاصاً بالمسلمين المنتمين إلى الأمة المسلمة فقط بل يشمل كل بني الإنسان على اختلاف مللهم واعتقاداتهم
ويشير الدكتور جزر إلى تحذَيّر الرسول صلى الله عليه وسلم من تقصير القادرين في قضاء حوائج الناس، فقد قال عمرو بن مرة لمعاوية: إنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْـحَاجَةِ وَالْـخَلَّةِ [الخَلَّة: هي الحاجة والفقر] وَالْـمَسْكَنَةِ إِلاَّ أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ"، [الترمذي (1332)، وصححه الألباني: صحيح الجامع (5685)]. قال: فجعل معاوية رجلاً على حوائج النَّاس.
وعن جابر بن عبد الله وأبي طلحة الأنصاري -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ؛ إِلاَّ خَذَلَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ؛ إِلاَّ نَصَرَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ"، حسنه الألباني، صحيح الجامع (5690).
وفي تأصيل ذلك من أقوال الفقهاء المسلمين ما يدعو إلى العجب؛ فإنهم قد شرعوا أنه يَجِبُ على كل مسلم محاولة دفع الضرر عن غيره، فيجب قطع الصلاة لإغاثة ملهوف وغريق وحريق، فيُنقِذه من كلِّ ما يُعرِّضه للهلاك، فإن كان الشخص قادرًا على ذلك دون غيره فُرِضَتْ عليه الإغاثة فَرْض عَيْنٍ، أمَّا إذا كان هناك مَن يقدر على ذلك، كان ذلك عليه فرض كفاية، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء.
ثواب دنيوي وأخروي:
وبحسب الدكتور محمد جزر فإن الجزاء على تفريج كربات المسلمين غير مقتصر على أجر الآخرة، بل إن صانع المعروف يجد أثر ذلك في حياته، فمن ثمرات صناعة المعروف صرف البلاء وسوء القضاء في الدنيا، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة))، ابن ماجه (2417).
وما يقدم الإنسان لإخوانه المحتاجين فهو رصيد يدّخر عند الله تبارك وتعالى لأن الجزاء من جنس العمل، وكما قال الله تعالى: "وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يوم القيامة" [آل عمران:185].
ويختم الدكتور جزر حديثه لـ"بصائر" بوصية هامة حيث أنه لا بد للمسلم عند القيام بأي عمل أن يجدد نيته لله تعالى حتى لا يحبط أجره، وكما قال الله تعالى "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً"، وأن يستحضر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئً ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله".
تأليفٌ للقلوب

تفتتح الاعلامية والباحثة الاجتماعية هناء الكحلوت حديثها الخاص لـ"بصائر" بالإشارة إلى أن الإنسان يحتاج لأن يعطي غيره ويشاركه ويأخذ منه كحاجته للحب والعطف والحنان والأخذ بيده، إذ إن الحياة مبنية على التعاون والتخاطب والمشاركة.
وتضيف الكحلوت: ثبت أن التماس حاجات الناس والسعي لتلبيتها سيؤلف بين القلوب ويصفّي العلاقات من الحقد والغل والكره والجفاء، وسيعطي الإنسان طاقة إيجابية إثر ما بذله لغيره وسيشعر بعدها بلذّة وانتشاء تجعله سعيدا جدا بما فعل وما قدم وتدفعه لفعل المزيد. وستعود بالخير على نفسه وغيره. وتعطي مساحة للغير لأن يبذل وتشجعه على ذلك.
وأشارت الكحلوت بأنه من الواجب على كل شخص أن يضع نفسه في خدمة الناس، ليقتدي به غيره، ويصبح هذا السلوك ثقافة مجتمعية، فكما يقدم المرء لنفسه خيرا يدفعها ويحفزها وممكن أن يقدم للكثير من الناس، فأوجه الخير كثيرة، والسبل كبيرة لكن انوي أن تفعل الخير، وأن تقدم لغيرك، وأن تضع نفسك في خدمة الناس بأن تتلمس حاجاتهم وتدخل السرور لقلوبهم.
الكحلوت: العطاء لا يقتصر على الجانب المادي وحسب، بل في كثير من الأحيان يكون للجانب المعنوي أثر أكبر وأعمق
وتوضح بأن العطاء لا يقتصر على الجانب المادي وحسب، بل في كثير من الأحيان يكون للجانب المعنوي أثر أكبر وأعمق، كالابتسامة في وجه المتعبين وغيرها. ودائما الأشياء غير المتوقعة يكون أثرها في النفس كبيراً، فكيف إن كانت صادقة؟ أيضا من الممكن أن يكون بمساعدة الغير في دراسة، في إنجاز عمل، أو في تنظيف مكان، لذا كن على ثقة بأن كل إنسان بحاجة لشيئ ما، فقط انظر في عينيه وستعلم ما هو هذا الشيئ ثم ابذل جهدك لفعله.
وتضيف الكحلوت بأنه يجب أن يمتلك الإيمان قلب المرء بأن الخير سيعود عليه في يوم من الأيام، وأن الله يخبئ العمل الصالح له وسيعود أضعافا مضاعفة وإن لم يكن له فسيكون لابنه، لابنته، لأمه، لقريب، لحبيب. وسيعلم حينها أن الله ردّه إليه بأبهى حُلّة. وإن لم يكن فيوم القيامة قريب وسيكون لك جبلا من الحسنات.
وتختم الكحلوت بالقول: "إن كنت صادقا في العطاء فلن تخاف شيء؛ لأن الله يعلم ما في قلبك ولن يعود عليك إلا بالخير، هناك الكثيرون ممن لا يحبون المشي في حاجات الناس تحت مقولة "شو بدي بوجع الراس" لكن إن أنا وأنت وهم وكلنا لم نمش في حاجة أحد كيف سيكون هناك من يمشي في حاجتنا حين نحتاجه؟".
لذا لا تندم على خير فعلته مهما كان رد فعل من حولك، ومهما لم يقدّروا ذلك، يكفي أن الله يرى الخير وسيجزيك به خيرا كثيرا. فقط كن صادقا في العطاء.