من ضمن المصطلحات التي تؤخذ على نحو خاطئ أو على الأقل على نحو قاصر، في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، مصطلح التربية، والذي يتجاوز في حيزه المكاني، المدرسة، وفي حيزه المفاهيمي عملية التعليم والتلقين المعرفي داخل المؤسسات العلمية والتعليمية المختلفة؛ حيث مهمة التربية، في إطارها العام، أكثر اتساعًا وشمولاً من هذا الإطار الضيق.
في المجتمعات الرشيدة، والتي تتمتع بمنظومة اجتماعية وسياسية متطورة، على المستوى الفكري والأخلاقي والسلوكي، وكذلك التشريعي والنظمي؛ فإن التربية تضطلع بمنظومة من المهام ذات الطابع السياسي والاجتماعي، والتي تصب في مُجملها العام في صالح استقرار وصلاح المجتمع، وتدفعه إلى أن يتقدم إلى الأمام في سلم التطور الحضاري.
والتربية لغةً، هي "إنشاءُ الشيءِ حالاً فحالاً إلى حَدِّ التمام"، أما في الاصطلاح فالتربية هي "مجموعة العمليات التي بها يستطيع المجتمع أن ينقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه، وتعني في الوقت نفسه التجديد المستمر لهذه المعارف، ولتراث المجتمع، وكذلك تجديد الأفراد الذين يحملونه، أي أنها عملية نمو وتطور بشكل رئيسي" (المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف).
في المجتمعات التي تتمتع بمنظومة اجتماعية وسياسية متطورة؛ فإن التربية تضطلع بمنظومة من المهام ذات الطابع السياسي والاجتماعي، والتي تصب في صالح استقراره
أي أنه، ومن خلال هذه التعريفات وغيرها، فالتربية هي مصطلح حركي أو ديناميكي، وهي في جوهرها، ترتبط بمنظومة من القيم والمبادئ الحاكمة، التي يسعى النظام السياسي والاجتماعي الحاكم أو المتحكم في الجماعة البشرية إلى غرسها والحفاظ عليها داخل المجتمع، فرادى وعلى المستوى الجمعي.
ففي المناوي: "يُقال: ربُّ الولدِ ربًّا: وليُّه وتَعَهُّدُهُ بما يُغذِّيه ويُنمِّيه ويُؤدِّبه".
إذًا التربية لا تصبح كذلك إلا لو كانت تتضمن مجموعة من الأمور التي تتحرك في مختلف مسارات المجتمع، أي أنها على مستوى الأدوات؛ لا تتوقف عند حاجز المدرسة فحسب؛ حيث تشمل العديد من مسارات التنشئة الأخرى، ومن أهمها وسائل الإعلام، وخصوصًا وسائل الإعلام الجماهيرية، ومنابر المساجد، والأسرة بطبيعة الحال؛ أول وأهم مسارات التنشئة والتربية الأخلاقية والفكرية.
وللتوضيح؛ فالتنشئة هنا لا تعني عملية تختص بالنشئ وصغار السن؛ حيث هي عملية مستمرة، تستهدف كل شرائح المجتمع العمرية، ومستوياته الفكرية والثقافية؛ لذلك وجب التنوع في الأدوات المستخدمة، وكذلك مراعاة المستجدات التي تطرأ، وممارسة التنوير الضروري بها.
والقائمون على شؤون السياسة والحكم في هذه الحالة، يكونون مسؤولين عن عدد من الأمور في هذا الصدد، ضمن مفهوم الحكم الرشيد القائم على سيادة القانون وسياسة الرعية بالعدل.
الأمر الأول هو "فحص" كل ما يتم تلقين الفرد والمجتمع، إياه في مختلف مساقات التربية والتنشئة المختلفة، والتأكد من أنه يتطابق مع قيم المجتمع وهويته، والثاني هو التأكد من سلامة مسارات التنشئة المختلفة.
وثمَّة تنويهة ذات أهمية هنا، وهي أن هذه القيم نسبية؛ فلا يُشترط أن تتطابق بين كل مجتمع وآخر، وبطبيعة الحال هناك أعراف وقيم مُستَقرٌّ عليها، مثل التضامن والتكافل، وحفظ النفس، ولكن بشكل عام لا تتطابق منظومة القيم والمفاهيم التي تسعى مسارات التربية المختلفة إلى غرسها لدى الفرد، وفي المجتمع بشكل عام.
وحتى في القيمة الواحدة؛ فهناك تباينات فيما يخصها، فالحرية في المجتمعات الغربية الليبرالية تختلف تمامًا عن الحرية في منظور المجتمعات الإسلامية، عنها في المجتمعات الشرقية غير المسلمة.
مع المزيد من التطور في صور المجتمعات الإنسانية؛ تطورت أدوار التربية لكي تتحول إلى واحدة من أهم وسائل توحيد سمات المجتمعات الإنسانية
والتربية بهذا المعنى، كانت في المجتمعات الأولية تعني أن الأهل يربون الناشئة على ما كان عليه الكبار، وكان الأطفال يتعلمون ما هو مُنتظرٌ منهم أن يقوموا به عندما يبلغون، ثم تطور مفهوم التربية بعد ذلك لكي يدخل فيه عملية صناعة "المواطن الصالح"، أي تنمية سمات معينة في الفرد، مرغوبة من المجتمع.
ومع المزيد من التطور في صور المجتمعات الإنسانية؛ تطورت أدوار التربية لكي تتحول إلى واحدة من أهم وسائل توحيد سمات المجتمعات الإنسانية والجماعات البشرية المختلفة.
ومما سبق؛ فإنه على المستوى السياسي والاجتماعي العام؛ تُعتبر مهمة التربية الأساسية هي تجديد المجتمع، والتجديد هنا له معنيان، الأول هو مواكبة المستجدات، والثاني خلق أجيال جديدة تحل محل الأجيال القديمة التي تموت وتندثر، بحيث تستمر الجماعة البشرية على قيد الحياة، بل وتتطور أيضًا.
كما أنه من بين مهام التربية صياغة لغة واحدة من التفكير والقناعات بين الجماعة البشرية الواحدة، بحيث يكونون كلاًّ واحدًا، لهم نفس الماضي والحاضر، وكذلك التطلعات والأماني المستقبلية المشتركة.
وبحسب علماء النفس والاجتماع؛ فإن هذه الحالة من الاتساق، تخلق ما يُعرف بالوجدان الجمعي للمجتمع الواحد، وهي التي تؤسس – كذلك – للعيش المشترك، من خلال الحفاظ على هوية موحدة له، وتشكيل رأي موحد وموقف موحد من القضايا المختلفة، والمستجدات والأزمات التي تعرض عليه، وبالتالي؛ فهي واحدة من أهم عوامل استقرار أي مجتمع أو دولة.
وهذه الأمور كلها ليست ذات طبيعة نفسية واجتماعية فحسب، أو ترتبط بالعلوم التربوية والسلوكية؛ حيث هي في صلبها ذات طابع سياسي، حتى عند تخصيصها على مستوى الفرد الواحد، فالسياسة في حد ذاتها هي ظاهرة بشرية، وهي واحدة من علوم الاجتماع بمحتواها الواسع؛ حيث السياسة هي عملية تُعنى بإدارة شؤون الجماعة البشرية، وحكمها، وتوزيع الموارد المحدودة على أفرادها، وضمان استقرارها، وذلك كله من خلال منظومة من الأدوات المادية والمعنوية القيمية.
ولذلك؛ فإن هناك علم كامل، يسمى بعلم الاجتماع السياسي، وهو الذي يدرس كيفية تفاعل المجتمع أو الجماعة البشرية مع ظاهرة الحكم، ومع المجموعة الحاكمة، وكيف توجه الأخيرة مجموعة المحكومين.
وبالانتقال إلى المستوى التطبيقي من النقاش، والذي يخص واقعنا العربي والإسلامي؛ فإن هذا المفهوم للتربية بأدواتها وأدوارها؛ غائب عن فهم الكثير من أنظمة الحكم في العالم العربي والإسلامي، وذلك ضمن أمور أخرى كثيرة غابت عن الدولة، في إطار منظومة قواعد الحكم الرشيد.
ولما غابت التربية بهذا المعنى، وتشتت أدوات التلقين والتنشئة بين أطراف مختلفة، وتراجَع دور الدولة في تنسيق سياسة موحدة للإعلام والتعليم والمنابر، وغير ذلك من الوسائط المعنية بمنظومة القيم والأفكار؛ سمح كل ذلك بدخول أفكار وافدة أثرت على هوية المجتمع الموحدة، مما أدى إلى تفكك المجتمعات.
أخطر الظواهر التي قاد إليها قصور التعامل مع مفهوم التربية، هو التأثير على هوية المجتمعات العربية والإسلامية، وظهرت فيها هويات أخرى فرعية
وبالتالي صار هناك مجالات عدة للانقسامات والانشقاقات وظهور الولاءات فوق الوطنية، وبالتالي إفساح المجال أمام صدامات اجتماعية وسياسية عديدة، بعضها قسَّم الدول فعلاً، وهذا أحد أهم مظاهر فشل الدولة.
ولعل أخطر هذه الظواهر التي قاد إليها قصور التعامل مع مفهوم التربية من جانب الحكومات، هو التأثير على هوية المجتمعات العربية والإسلامية، بحيث ظهرت فيها هويات أخرى فرعية، ما بين ليبرالية وعلمانية، وغير ذلك؛ صارت كالسوس الذي ينخر في هياكلها وأسسها.
وهذه المشكلة بالرغم من خطورتها؛ إلا أنها معتادة وأحد الظواهر التي ترتبط في الغالب، بفترات الانحطاط والتراجع الحضاري، وعانت منها الأمة في كثير من مراحلها التاريخية السابقة، عندما كانت تضعف دولة الخلافة وتسود الشعوبية والهويات الفرعية، بفعل فساد الحاكم أو الحاشية، أو كليهما معًا.
وبالتأكيد تطرح هذه الحالة، واجبات مهمة على الحركة الإسلامية، والأطر التربوية والدعوية الحركية فيها، على أهميتها وخطورتها؛ حيث هي واحدة من أسباب التشرذم والاقتتال الحالي في جنبات الأمة، مع غياب المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية عن أداء أدوارها في صدد توحيد المفاهيم والقيم.
ولا نكون مبالغين عندما نقول إن فتنة التكفير وقتل المسلم، هي واحدة من نتاج هذه المشكلة.