انتشرت ثقافة الاستدانة في عالمنا العربي ولجأ كثير من الناس إلى القروض للإنفاق على أمور ترفيهية وهذا يرجع لعوامل كثيرة في مقدمتها جهل كثير من المسلمين بضوابطها الشرعية وما يترتب عليها من تداعيات اجتماعية واقتصادية، فضلاً عن شيوع الحاجة نتيجة انتشار الفقر والبطالة بصورة مزعجة، واضطرار بعض الشباب إلى الاقتراض أو شراء مركبات أو معدات أو مساكن بالأجل لحل مشكلاتهم.
فالدّين خطر في ذاته حتى إنه ليحول دون براءة الشهيد، فما هو سبب التزايد المستمر في أعداد الغارمين؟ وما هي الوسائل التي تحمي المؤمن من كثرة الدّين؟ وما هو الخطر الذي يواجه ضحايا الاستدانة؟ هذه الأسئلة وغيرها حملتها "بصائر" ليجيب عليها عدد من الأساتذة المختصصين وذلك في التقرير التالي:
الشريعة اهتمت بتفاصيل الدّين
د. زياد مقداد أستاذ الفقه وأصوله في الجامعة الاسلامية بغزة، أكد لـ"بصائر" على أن الشريعة الإسلامية اهتمت بمسألة الدّين اهتماماً كبيرًا "ولربما ليس غريباً علينا أن أطول آية في القرآن الكريم كانت آية الدّين وهذا به إشارة إلى أهمية الموضوع وضرورة أخذه بعين الاعتبار".
وأضاف أن الشريعة اهتمت بتفاصيل عملية الدّين، وضرورة تسديده، والأثر المترتب على المماطلة وعدم القدرة على سداده، وكيفية تعامل الدائن مع المدين، لافتاً إلى أن كل ذلك فصلته الشريعة الإسلامية تفصيلاً واضحاً ودقيقاً.

وأوضح مقداد أنه "رغم كل هذا الاهتمام لا بد أن ندرك أن الدّين همٌ يلحق بالإنسان، وقد تعوذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- منه بقوله : "وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّين"، لذلك فإن الإكثار من الديون أمر مرهق للإنسان خاصة عندما تزداد قيمته ولا يستطيع تسديده فيشكل هاجساً وهماً يؤثر على حياته بكل الأحوال".
سبب التزايد في أعداد الغارمين
وحول أسباب التزايد المستمر في أعداد المدينين، ذكر مقداد لـ"بصائر" عدة أسباب، "أولها- الضائقة المالية التي تعم قطاع غزة خاصة، وبعض البلدان العربية، فالأزمات الاقتصادية، وقلة العمل، ووجود من يعمل بمرتبات قليلة، هذا كله يدفع الناس إلى البحث عن القروض والديون عسى أن يستطيع سدها وأن تتحسن الأحوال".
وتابع" هناك سبب آخر، وهو طموح الانسان، فالإنسان بطبيعته يسعى لأن يعيش حياة هانئة، وهذا يحتاج إلى توفير آليات الحياة الرغيدة من بيت فسيح وسيارة وأثاث يرتاح عليه، وربما لا يكون دخله يفي لكل هذه الطموحات فيذهب للاستدانة ليحققها".
وأردف قائلاً: "قد يكون السبب في ذلك أيضاً، مشاريع التجار على وجه الخصوص، بسبب اغراءات في صفقات تجارية هنا أو هناك، وربما لا يملكون الثمن لدفع حق هذه الصفقة فيتجهوا إلى الدّين".
ونوه إلى أن هناك فئة، "أسأل الله أن تكون قليلة، يتداينون وهم لا ينوون التسديد، بمعنى يتداين وهو غير محتاج، لكن يريد أن يأخذ هذا المال لينفقه شرقًا وغربًا".
واسترسل "ربما هناك سبب آخر يتمثل بوجود مؤسسات مالية، كالبنوك فتحت أبوابها للإقراض الربوي، والناس بسبب ضعف الدّين عند بعضهم يقدمون على هذا الدّين، بالإضافة إلى البنوك الإسلامية التي فتحت باب المرابحات على مصراعيه، مما يترتب عليه زيادة في الديون؛ لأن المرابحات تعني الشراء بالتقسيط، ومعناه أن تتكدس الديون على مدار سنوات، كأن يشتري الانسان شقة ويظل مكبلاً بالديون لمدة عشر سنوات".
وشدد على أنه "في كل زمان ومكان تكون هناك ديون على الناس، ولكن في زماننا هذا بالفعل أصبحت الديون ظاهرة منتشرة تحتاج لعلاج فعلي".
د. مقداد: على الانسان أن يتوكل على الله، وليس كلما احتاج شيئاً يذهب ليستدين، وعليه بالصبر، فقد تتفتح لك أبواب غير الدين مثل أبواب عمل، أو أبواب بركة من الله
وسائل تحمي المؤمن من كثرة الدّين
وأشار مقداد إلى وجود وسائل تحمي المؤمن من كثرة الدّين، قائلاً: "على رأس هذه الوسائل القناعة، لأن الانسان لا يستطيع أن يحقق لنفسه كل ما يتمنى، ولذلك ينبغي على الانسان أن يخطط لإنفاقه ومصروفاته بحسب دخله".
وتابع "كما يجب على الانسان أن يجتهد ويعمل، لأن البطالة والكسل يؤديان إلى الدّين، لكن الحرص والاجتهاد في العمل يدر دخلاً ويحميك من أن تمد اليد للغير، فالدّين هو شكل من أشكال السؤال والتسول لكن بدرجة ألطف".
وقال مقداد لـ"بصائر": "لابد من التقنين في المصروفات، فهناك أناس إذا نزل مرتبهم، يتم صرفه خلال ثلاثة أيام وباقي الشهر يقضونه بالدّين، فإدارة المصروف وتوزيع المرتب بالتساوي على الشهر يحد من الدّين، وعلى الانسان أن يتوكل على الله، وليس كلما احتاج شيئاً يذهب ليستدين، وعليه بالصبر، فقد تتفتح لك أبواب غير الدّين مثل أبواب عمل، أو أبواب بركة من الله".
ونصح مقداد من اضطر للدين بأن يستدين بقدر حاجته، وليس كما يقال "إن كان دين حط رطلين"، حتى يستطيع التسديد، ولا تتراكم عليه الديون، ويحمي نفسه من الهم ومطاردة الدائنين، على حد تعبيره.
د. مقداد: من اضطر للدين عليه أن يستدين بقدر حاجته، حتى يستطيع التسديد، ولا تتراكم عليه الديون، ويحمي نفسه من الهم ومطاردة الدائنين
كيف يمكن أن تكون المواجهة؟
ونوه مقداد إلى أن الأصل أن لا يستدين الإنسان للأمور الترفيهية، بل تكون الاستدانة للأمور الضرورية والحاجات الماسة في حياته، وأن لا يعتمد الدّين كمنهج حياة، لأنه إن فعل ذلك لن يستطيع أن يتخلص من هذا الدّين، وسيظل مصاحباً له طوال حياته.
وقال: "ينبغي أن يكون هناك توعية عبر كل الوسائل الإعلامية من تلفاز وراديو ومجلات، بخطورة الدّين ومفاسده التي قد يغفل الانسان عنها، ففي البداية قد لا يتصور ولا يستشعر الإنسان بمدى المخاطر وحجمها، لكن بعد مرور الأشهر على الدّين يستشعر المدين بالقهر والقلق ويعود هذا الضرر على أولاده".
ثواب من يغيث غارماً

ومن جهته، قال د.عاطف أبو هربيد رئيس قسم الشريعة الإسلامية بكلية الشريعة والقانون في الجامعة الاسلامية بغزة لــ"بصائر": "إن الشريعة الإسلامية هي شريعة الأمة الواحدة والمجتمع الواحد المتماسك المترابط الذي يشعر كل عضو فيه باحتياجات العضو الآخر".
وبين أن الناظر إلى مصارف الزكاة يشعر بهذا التكافل الاجتماعي، إذ جعل الزكاة من أولياتها للفقراء والمساكين والعاملين عليها، وحتى للعبيد الذين يريدون أن يعتقوا، وأيضا في سبيل الله وقد تخلل ذلك لمن أثقلتهم الديون.
وتابع "يكفينا أن نسمع كيف أن النبي -عليه الصلاة والسلام- جعل رفيقه كافل اليتيم، لأن اليتيم عاجز عن القيام بمتطلبات حاجاته"، مضيفاً أن الغارم لا يقل وضعه من حيث عدم القدرة، عن حال اليتيم، "فالغارم عاجز عن أن ينهض بأسباب حياته، فضلاً عن سداد ما عليه من دين، فمن يقف الى جوار هذا الانسان ولا يبتغي بذلك إلا وجه الله لا شك أن له أجراً عظيماً"، متسائلاً: "كيف إذا كان هذا الأمر يقصد به وجه الله عز وجل؟".
وأكد أبو هربيد أن "الله أعز وأكرم من يقضي الدّين عن الغارمين، بأن لا يبقي عليه كرباً يوم القيامة وسيبعدها عنه كما أبعد كرب الناس في الدنيا، كما أن الله عز وجل يحب من يكون عونًا لعباد الله".
الشهيد لا يغفر له الدّين
ونوه أبو هربيد إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ من الدّين والفقر في أحاديث كثيرة، قائلاً: "من المعلوم أن الدّين فضلًا عن أنه هم في الدنيا لن يترك صاحبه يوم القيامة، لدرجة أن الشهيد يغفر له كل شيء عدا الدّين كما جاء في الأحاديث، لما فيه من حق للعباد".
د. أبو هربيد: من المعلوم أن الدّين فضلًا عن أنه هم في الدنيا لن يترك صاحبه يوم القيامة، لدرجة أن الشهيد يغفر له كل شيء عدا الدين، لما فيه من حق للعباد
وأضاف "أعتقد أن الأمة الإسلامية خاصة من حباهم الله تعالى بالغنى، مسؤولون في أن لا يدفعوا الناس إلى أن يستدينوا، بأن يحافظوا على متطلبات الحياة لهم.
وقال أبو هربيد: "إن كان الله تعالى قد شرع القرض، لكنه قال أيضاً "وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ" [سورة البقرة: 280]، فالله تعالى حث على الإقراض لقوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة" [سورة البقرة: 245]، مؤكداً في الوقت ذاته على أن يتجاوز الانسان عن بعض حقه تخفيفًا عن هؤلاء المدينين فهذا أمر مستحق".
تصنيف الغارمين
ولفت أبو هربيد إلى أن الغارمين يمكن تصنيفهم، مبيناً أن الغارم يمكن أن يكون قد استدان المال لشخصه أي لمتطلبات حياته، وأن أهل بيته يحتاجون إلى مأكل ومشرب، فهذا الأمر يعتبر من الغارمين ويستحق من مصارف الزكاة الثمانية، بشرط أن لا يكون هذا المال الذي استدانه لشخصه من أجل معصية أو لترفيه نفسه"، على حد تعبيره.
واسترسل "النوع الآخر من الغارمين من يتكلف بأن يصلح ذات البين، كما لو أن هناك إشكالية بين الطرفين وأتلفوا بعض الأموال، فهو تكفل بدفع هذه الأموال حتى يصلح بين المتخاصمين أو تكفل بدفع الدِية لإنسان عائلته عاجزة عن دفع الدِية"، موضحاً أن "هؤلاء الذين يغرمون المال ويتحملون الدّين من أجل خير المجتمع أعتقد أن هؤلاء ممن يستحقوا أن يعطوا من مصارف الزكاة".